سرديات قرآنية (2-1)

 

محمد علي العوض

 

يزخر النص القرآني الكريم بكم غير يسير من القصص المتباينة من حيث الطول والقصر وتعدد المواضع والمواقف المتراوحة بين الاتصال والانفصال.. فهناك قصة صاحب الجنتين، وأهل الكهف، وسيدنا موسى والعبد الصالح، وذي القرنين، وقصة سيدنا سليمان مع الهدهد وبلقيس والنملة في سورة النمل، ومريم وسيدنا يوسف ويونس وإبراهيم مع النمرود وغيرها.

الأمر الذي دفع البعض للقول بأنّ القص القرآني دليل على أن العرب كانت تعرف فن القصة قبل الإسلام؛ ولولا هذه المعرفة لما قصها القرآن عليهم.

تتبدى جماليات السرد القرآني في تنوعه وتعدد أساليبه، والانتقال السلس بين الأحداث المتتابعة في القصة الواحدة، فمن نماذج تنوع أساليب العرض في النص المقدس أن تبدأ القصة بملخص مختصر لفحواها قبل أن تشرع القصة في عرض تفصيلاتها كما في قصة أصحاب الكهف، والتي تبدأ بملخص: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثْناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا). ليبدأ بعدها مباشرة في تفصيل القصة (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ولتتتابع الوحدات والمشاهد السردية بالتداعي الكرونولوجي -التعاقبي- الجميل.. حيث تصوّر مشهدهم وهم يشاورون قبل دخولهم الكهف، ثم حالتهم بعد دخولهم إليه، ثم نومهم ويقظتهم، وبعدها مشهد تساؤلهم عن مدة مكوثهم، ثم إرسالهم واحدًا منهم ليشتري لهم طعاما، ثم كشف مبعوثهم في المدينة، وعودته، ثم عودتهم لموتهم مرة أخرى، واختلاف القوم في أمرهم بين إغلاق كهفهم عليهم وتركهم كما هم وبين بناء مسجد عليهم…إلخ

واحدة أخرى من جماليات تنوع أساليب السرد القرآني أن يُذكر آخر القصة ومغزاها، ثم تليها عملية السرد التفصيلي كما قصّة موسى في سورة القصص، حيث بدأت القصة بذكر العواقب والمصير الذي انتهى إليه فرعون بسبب علوه وفساده في الأرض، وقتل الأبناء واستيحاء النساء (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقومٍ يؤمنون، إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونُمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) ثم يشرع بعد ذلك في تفصيل الوحدات السردية المكونة للأحداث.

أيضا من أنواع أساليب السرد القرآني ما يعرف بـ"التدفق المباشر" أو التداعي المباشر، وفيه يتم سرد القصة مباشرة دون مقدمات أو ملخص أو ذكر مآلات؛ والمغزى هنا هو لفت انتباه القارئ أو السامع، وإثارته لمتابعة الأحداث، ومثال ذلك قصة مريم (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا).. فالسرد غير المنقطع ينقل الأحداث المتتابعة، والمفاجآت التي غمرت مريم لتنساب القصة تتحدث عن نفسها بواسطة شخوصها.

ومن ذلك أيضًا قصة إبراهيم، (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) فهذه مقدمة خاطفة لابتداء العرض، ليظهر بعدها مشهد إبراهيم وإسماعيل وهما يدعوان: (ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) فالانتقال المباشر من الصيغة الخبرية بمقدمة القصة إلى الأسلوب الحركي بواسطة الشخوص عبر مشهد الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء أكسب المشهد صورة متخيلة حية، تدفع في اتجاه تنامي الأحداث وسيرورتها، كما أنّ حذف كلمة "وهما يقولان" التقديري وإضمارها قبل جملة (ربنا تقبل منا…) أوجد تكثيفا وقوة عرض؛ فجاء السياق مفعما بانسيابية الحكي والتداعي الحر.

أيضا تتنوع أساليب المفاجأة في قصص القرآن وتتبدى في 4 صور مختلفة؛ منها: اختفاء سر المفاجأة عن العامل أو الشخصية الرئيسية في القصة وعن المتلقي، حتى ينكشف لهما معا في وقت واحد، وتبدو أحداث القصة وكأنّها ألغاز لا نعرف نحن ولا شخصيّاتها حلا لها، حتى إذا تأزمت "العقدة"، تبدت المفاجأة، وتكشّف الحل والحقائق كما في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف، حيث تتمظهر أحداث القصة في صورة مفاجآت متوالية، نعيش معا ذات الحالة التي عاشها سيدنا موسى عليه السلام، ونظل في حيرة من أمرنا حتى تنجلي المسألة ويكشف العامل الرئيسي "العبد الصالح" عن الغرض من الأحداث؛ فقد التقى سيدنا موسى بالعبد الصالح، وطلب منه أن يعلمه مما علم رشدا، فأجابه العبد (لن تستطيع معي صبرا).. هذا الحكم الأولي زاد من توتر العامل الثاني سيدنا موسى والمتلقي، إلا أن سيدنا موسى أصر على مصاحبته (… ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعْصي لك أمْرا)..

وشيئا فشيئا يتأزم الأمر بارتكاب "العامل الرئيسي أفعاله المفاجئة؛ وهي خرق السفينة (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا) وبعدها قتل الغلام (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نُكرا)، وأخيرا مفاجأة بناء الجدار في مكان لم يُحسِن أهله ضيافتهما (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا). فجاء جواب العبد الصالح مفتاحا للأحداث السابقة ولأسئلة كان حلّها مجهولا فأجاب عن خرق السفينة قائلا: (أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأْخذ كل سفينة غصبا)، وعن قتل الغلام قال: (وأمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا)، وأجاب عن استنكار موسى له بناء الجدار بلا مقابل مادي بقوله: (وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسْطِع عليه صبرا).