"اختلاسات التربية".. وأعين الرقابة!

 

 

مسعود الحمداني

لعل سرقة "كم مليون" من المال العام يساوي من الناحية القانونية سرقة عشرة ريالات من خزينة الوزارة، فالجريمة في العُرف القانوني لا تُقاس بالكم، بل تقاس بالنوع، يعني كما يقول المثل العامي: "إذا سرقت اسرق جمل"،  هو ما طبقه بحذافيره المتهمون بالاختلاسات في وزارة التربية والتعليم، وهي الحادثة التي تؤيد المقولة الشائعة "المال السائب يُعلّم الناس السرقة".

فحسب الاتهامات الموجهة إليهم، فقد قضوا ثلاث سنوات من الكد والكدح، والسلب والنهب، والتحايل دون أن يشعر المسؤولون الكبار في الوزارة بأي شيء، كانت العملية تتم في جنح الليل ووضح النهار، والمسؤولون لا يعلمون، صال اللصوص وجالوا، واشتروا وباعوا دون أن ينبته لهم أحد، استغلوا مناصبهم وقاموا بجريمتهم بشكل يحسدهم عليه أرسين لوبين محقق الجرائم الشهير، كما عملوا دون كلل أو ملل كي يكوّنوا ثروتهم من عرق وطين هذا الوطن "ولا من شاف ولا من دري"، حوّلوا مسروقاتهم النقدية إلى فلل وشقق وعمارات واستثمارات ضخمة في الداخل والخارج، ولم يخجل أحدهم من ادعاء أنَّ هذه الثروة العقارية والمالية الضخمة كوّنها من "تجارته وعرق جبينه"!

ثلاث سنوات من العمل الدؤوب في التخطيط والاختلاس..ثم يتم اكتشافهم فجأة، وبالمصادفة ربما، وتتحوّل قضيتهم إلى قضية رأي عام، وتتم محاكمتهم، وتتكشّف فصول مذهلة وصادمة من هذا السيناريو الدرامي بامتياز، وستسوق لنا الأيام فصولاً مثيرة أخرى لم تخطر حتى على بال الشيطان.. كل هذا يجري والأحداث تتصاعد، وهناك من المسؤولين لا يزالون بعيدين عن المساءلة، وبعيدين عن المسؤولية!! لم نسمع أن أحدًا منهم تقدم باعتذار نتيجة الإهمال العظيم الذي تسببوا فيه، ولم نرَ أحدهم يخرج إلى العلن ويعلن بكل شجاعة ومروءة عن تقديم استقالته، ولم يتم استدعاؤهم في المحكمة للإدلاء بشهاداتهم، ولم يقم مجلس الشورى باستعمال إحدى أدواته الدستورية وهي "الاستجواب"، ولم يتحرك بقوة وصرامة وإصرار للمطالبة بحقه الأصيل باستدعاء من يراهم مسؤولين عن ذلك في الوزارة، ولم تمس المحاكمات سوى المنفذين الفعليين للجريمة، دون التطرق لأسباب هذا الإهمال الجسيم الذي أدى للجريمة، وما زال المسؤولون يمارسون أعمالهم بكل أريحية في مكاتبهم، ودون أي ضغوط شعبية أو برلمانية، ويستقبلون العام الدراسي الجديد بخطب عصماء عن المبادئ والقيم والتمنيات بالنجاح.

لقد عانى موظفو ومعلمو وزارة التربية والتعليم من تأخر الترقيات، ومن الضغوط النفسية الهائلة التي عملوا تحت وطأتها طيلة سنوات، وعانوا من البيروقراطية المالية والإدارية، ورغم كل ذلك كانت هناك قلّة تعيث فسادا، وتتلاعب بمقدرات وطنٍ بأكمله دون أن يشعر بهم أحد من المسؤولين، ودون أن يُلاحظ أحد منهم آثار النعمة التي ظهرت دون سابق عهدٍ على أولئك المختلسين، ولم يتساءل مسؤول عن أسباب الثراء المُفاجئ الذي نزل على فئة من موظفيهم فجأة.

هناك خيوط أخرى يجب مساءلتها ليس في وزارة التربية والتعليم وحدها، بل في أجهزة وجهات أخرى رقابية ومالية كلها ربما تكون ساهمت أو سهّلت بشكل أو بآخر اختلاس المال العام، وإهدار هذه الملايين التي ذهبت بين عشية وضحاها بأيدي "شلّة" من اللصوص الذين يشبهون عصابات المافيا بتخطيطهم، وتوزيع الأدوار، ثم بالتصرف بالمال المختلس.

جريمة بهذا الحجم لا يجب أن تمر دون مساءلة عامة عن المنظومة الرقابية الحكومية، فهؤلاء الموظفون جلّهم من الإدارات الوسطى أو الدنيا، ورغم هذا وعلى مدار ثلاث سنوات استطاعوا الإفلات من الرقابة والتدقيق الداخلي والخارجي، والوصول إلى مسارات مالية ليس من السهل اختراقها، ورغم ذلك أيضًا استطاعوا الإفلات من الرقابة عشرات المرات خلال ثلاث سنوات وربما أكثر، ولا عزاء للوطن ولا لماله العام المشاع بأيدي حفنة من أبنائه..

مرة أخرى تذكروا أن "المال السائب يعلّم الناس السرقة".

Samawat2004@live.com