المنسحبون والمرابطون

 

غسان الشهابي

لا يمكن الجزم بمدى صحة نيّة الولايات المتحدة الانسحاب من منطقة الخليج، لأن قراءات المحللين السياسيين تقترب أحياناً من سجع الكهّان، فلا تدري أصحيح ما يقولون أم أن خيالهم يشطح للبعيد.

فلو عدنا للعام 1990/1991، أي إلى "عاصفة الصحراء" لوجدنا أن الرأي العام الأمريكي حاول بشتى الطرق، ومن خلال "البدعة الأمريكية" التي لم يسبقهم إليها أحد، وهي "جماعات الضغط" المسماة باللوبيات، أن تثني الرئيس الأمريكي الراحل جورج بوش الأب، عن خوض هذه الحرب، وذلك تحت شعارات معناها أن الدماء الأمريكية لن تكون مقابل النفط، وحتى لا تعطي الإدارة الأمريكية الرأي العام "الأذن الصمّاء" وكأن الرأي العام لم يكن؛ أقنعته أنها ستشجع دول المنطقة على انتهاج الديمقراطية، وبالتالي يجري الدفاع – مستقبلاً – عن أنظمة ديمقراطية صديقة. وبالفعل، قامت الدول الخليجية في العام 1992 وما بعدها بالعديد من الخطوات للمشاركة الشعبية المتفاوتة، ولكن هذه الخطوات تقدمت في بلدان، وتجمّدت في بلدان، وتراجعت في بلدان، فلم تصبح الصورة ديمقراطية على المقاس وبالمفهوم الأمريكيين، بل صارت كثر ضبابية في التعريف من ذي قبل!

وأيًّا ما كان الموقف النهائي للولايات المتحدة، فإن الجانب الغربي من الخليج العربي، أي دول مجلس التعاون لابد لها أن تصل إلى هذه الحقيقة، وهي أن ثغور هذه المنطقة لن يقف عليها إلا أبناؤها، وأن إنفاقها العالي على التسلح آن له أن يقول قولته، فإذا لم يكن هناك توازن للمصالح في المنطقة يمكن أن يبقيها على وئام، فتوازن الرعب قد يبقى المنطقة مشلولة في حال اللا حرب واللا سلم، في الوقت الذي تبحث فيه عن المزيد من الاستثمارات العالمية، وهذه الاستثمارات لا تطأ أرجلها أي مكان إلا بعد أن تطمئن إلى أنها في حالة أمان لسنوات إلى الأمام، وليس في حالة مناوشات لا يُعلم متى تتطاير شرره لتشعل فتيلاً ملعوناً.

إن انسحبت الولايات المتحدة أم لم تنسحب، إن مارست أم لم تمارس لغة التلويحات والتهديدات، وثنائية التبريد والتسخين لاستحلاب الخزائن وتغطية التكاليف الآنية والمستقبلية؛ فإن الظرف يفتح الباب واسعاً على مساريّن أساسيين: السير بالمنطقة نحو الديمقراطية الحقيقية والصلبة، النابذة للمزايدات والاستعراضات الجوفاء، وتحويل التهديد إلى فرصة للمشاركة الشعبية الواسعة والحقيقية وليست المبخّرة للقرارات الرسمية. وبدء التداول الحقيقي والجاد للاتحاد بين دول شبه الجزيرة العربية، لتغدو قادرة على النهوض بالتحديات المستقبلية الجمّة.