عودة الشجعان

محمد علي العوض

 

عاد الهتاف المحبب "رص العساكر رص.. الليلة تسقط بس" ليصدح في سماء الخرطوم من جديد، وعاد الشجعان للشوارع كرة أخرى، ولسان حالهم يقول إنّ مقتل مئات المعتصمين أمام ساحات قيادة الجيش أول شهر يونيو المنصرم لم يزدهم إلا ثباتا وإصرارًا على المضي قُدمًا في ترسيخ دعائم الدولة المدنيّة التي يحلم بها السودانيون جميعا..

نعم عودة الشجعان للشوارع حملت رسالة للمجلس العسكري عبّر عنها وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت في تغريدته بألا راحة للعسكر حتى تُنقل السلطة لحكومة مدنية فعلية..

عادوا والعودُ أحمد ليملأوا ساحات الخرطوم وبورتسودان وعطبرة والأبيض وميادين بُحري وبُري وأمدرمان الحيّة وأزقّتها القديمة وجميع المدن السودانية وفاءً وعرفانًا لدماء شباب السودان العطرة التي لم ولن تذهب سدى كما قال هاشم محمد صالح:

واغتسلت مدائننا

مِن رِجس أرذلِنا

ها هي شوارعنا

تعود بصوتها وهتافها..!

تعودُ

ضد الصمت

ضد الموت...

لا وقت للراحة

عند الساعة الواحدة!

ها هي شوارعنا تعود

يعود هُتافها

وتعتزلُ العصابة

تمشي مِشيةَ الإحرام

تقرأ الفاتحة

وتعوذ من شرِّ الذي

لبِس النياشينَ

وازدرى..

خرجت جموع الملايين الهادرة تهتف ملء حناجرها وبقامة عزائمها برغم الترسانة العسكرية والرصاص الحي؛ استجابةً لدعوة تجمع المهنيين السودانيين بالتوجّه نحو القصر الجمهوري من أجل المطالبة بالقصاص للشهداء، ومحاكمة القتلة، وتسليم السلطة فورًا للمدنيين دون شرط أو تسويف درج المجلس العسكري على ممارسته منذ شهر أبريل الماضي.

أسقط المجلس العسكري الانتقالي في يده بعد أن رأى الجماهير الثائرة في ساحات الخرطوم تمنح قوى الحرية والتغيير تفويضًا كاملا لاستكمال مهمة الثورة، وإزاحة المجلس العسكري المغضوب عليه شعبيا، وفتح الطريق أمام تشكيل سلطة مدنية انتقالية كاملة غير منقوصة، تضع أوزار الحرب وتخاطب قضايا السلام والاقتصاد، وتضع السودان على مسار التحول الديمقراطي للوصول لمحطة الحكم المدني الرشيد بعد قرابة 50 سنة بعد الاستقلال رزح فيها السودان تحت نير الحكم العسكري العضوض.

المليونية دفعت اللجنة السياسية بالمجلس العسكري لحث الوسيط الإثيوبي على دعوة قوى إعلان الحرية والتغيير لتهدئة الشارع وبدء التفاوض، ولكن جاء الرد أشبه بتعبير فتاة الهاتف الشهير: "عفوا هذا المشترك لا يمكن الوصول إليه حاليا" فكل قادة قوى الحرية والتغيير في الشارع مع شعبهم ولا يمكن الرد على طلبك الآن.

وأثبتت أنّ شعب السودان يمتلك طاقات كامنة لم تتفجر بعد، فالردة عن مطالب الثورة والشهداء أضحت مستحيلة، وأنّه كما طائر العنقاء هبّ من بين رماد فض الاعتصام في 3 يونيو أعمق تجربة وأكثر دُربةً وتحديا على مجابهة الطغاة واجتثاثهم، وأنّ "ركوب الراس" أو ما يُسمى -مدحًا لا ذمّا- بـ "الحماقة السودانية" هو غضبة الحليم بعد طول أناة، وعقاب بعد طول عفو، وسيل جارف يكنس أمامه كل الغثاء حتى يبقى ما ينفع الناس في سودان المستقبل. فالمليونية صححت الوضع تمامّا، وأبانت للمجلس العسكري حجمه الحقيقي بعد أن أخذته عزة فض اعتصام القيادة بالإثم والنكوص عن اتفاقه السابق مع قوى الحرية والتغيير بعد إيعاز وتحريض من قوى الشر الإقليمية.

واهم تمامًا من ظنّ أنّ اعتصام القيادة كان هو السلاح الوحيد في يد الثورة.. فالإرادة الشعبية هي أمضى سلاح، وما زالت كنانة الثورة تضج بكثير من أسلحة المقاومة السلميّة أقلّها سلاح العصيان الذي تمّ تنفيذه قبل أسبوعين، بجانب سلاح مليونية هذا الأسبوع؛ فكل الصيد في جوف فراء الثورة السودانية التي تكسّرت نصال أجندات المجتمع الإقليمي والدولي أمام عزيمتها، وذهبت كل مآرب قوى الشر الداعمة للعسكر منذ 30 سنة ماضية وحتى الآن أدراج الرياح ولم تقو على الصمود أمام العاصفة المليونية؛ إذ لا عاصم لدول الإقليم إن أرادت علاقة مستقبلية معافاة تسودها وشائج الاحترام والمصالح الوطنية والإنسانية المشتركة؛ إلا أن تحترم إرادة الشعب السوداني في تكوين حكومته المدنية، والتخطيط لمستقبله بنفسه، وعدم التدخل في شؤونه الخاصة أو فرض وصاية خارجية عليه..

بخروجه الحاشد يومذاك لقن الشعب السوداني المجلس العسكري درسًا لن ينساه أبدًا، كان عنوانه قطع السبيل أمام طموحاته في حكم البلاد؛ لاسيما طموحات حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع المُتهمة بفض اعتصام القيادة؛ فقد قالتها الجموع الهادرة بوضوح: الوصول إلى سدة الحكم يأتي عبر بوابة قلوب الشعب السوداني ورضاه ومباركته لا "سلفقة ساي" بلهجتنا السودانية..

أكبر درس قدمته مليونيّة السودان أنّ الرهان على العسكر والدبابة خسران مبين، وأنّ الاستقواء بالأجنبي، ومقابلة مطالب الشعوب بالقمع والعنف لن يخلق استقرارا ولن يدوم مهما طال به الأمد؛ وإلا لدام للقذافي وتشاوتشيسكو والبشير وغيره من الذين سقطوا أمام هدير الشعوب وهي تغني بلسان حال محيي الدين فارس وأغاريد العطبراوي:

ﻏﺪﺍً ﻧﻌﻮﺩ..

ﺣﺘﻤﺎً ﻧﻌﻮﺩ

ﻟﻠﻘﺮﻳﺔِ ﺍﻟﻐﻨّﺎﺀِ ﻟﻠﻜﻮﺥِ ﺍﻟﻤﻮﺷﺢِ ﺑﺎﻟﻮﺭﻭﺩ

ﻧﺴﻴﺮُ ﻓﻮﻕ ﺟﻤﺎﺟﻢِ ﺍﻷﺳﻴﺎﺩِ ﻣﺮﻓُﻮﻋﻲ ﺍﻟﺒﻨﻮﺩِ

 ﺗُﺰﻏﺮِﺩُ ﺍﻟﺨﺎﻻﺕُ ﻭﺍﻷﻃﻔﺎﻝُ ﺗﺮﻗﺺُ ﻭﺍﻟﺼﻐﺎﺭ

 ﻭﺍﻟﻨﺨﻞُ ﻭﺍﻟﺼﻔﺼﺎﻑُ ﻭﺍﻟﺴﻴَّﺎﻝُ ﺯﺍﻫﺮ ﺍﻟﺜﻤﺎﺭ

ﻭﺳﻨﺎﺑﻞُ ﺍﻟﻘﻤﺢِ ﺍﻟﻤُﻨﻮﺭ ﺑﺎﻟﺤﻘﻮﻝِ ﻭﺑﺎﻟﺪﻳﺎﺭ...

لا ﻟﻦ ﻧﺤﻴﺪَ ﻋﻦ ﺍﻟﻜِﻔﺎﺡ