أعيدوا لنا الوطن

 

د. سيف بن ناصر المعمري

لا نريد أن تعيدوا لنا الملايين المنهوبة، رغم أهميتها وحاجتنا إليها في هذه الظروف التي تتحجج فيها جميع المؤسسات بقلة المال، لا نريد أن تعيدوا لنا ما سُرق طوال هذه السنوات من أموالنا العامة، ومن مؤسساتنا، ومن موازناتنا، ومن مناقصاتنا، نريد منكم أن تعيدوا لنا شيئا أغلى قيمة من كل ذلك، لا يمكن أن تعوضه الأموال، ولا يمكن أن نشتريه حين نفقده بأي ثمن، نريد منكم أن تعيدوا لنا الوطن.

نسأل أنفسنا ماذا اقترفنا حتى ينال من وطننا بهذا الشكل الجريء، والمتواصل، وكل ضربة بدلا من أن تقوينا تضعنا أكثر فأكثر، لأنّها تكون أعمق أثرًا من الضربة التي قبلها، لأنّها تأتي من أشخاص أقسموا على صون الوطن ورعايته والذود عنه، لأنّها تأتي من أناس يعملون في دوائر اتخاذ القرار الكبرى داخل مؤسساتنا التي أغدقت عليها الامتيازات المادية وغيرها لكي تعف ولم تعف، لكي تكف نزعاتها، ولم تكف، لكي تقدر ما هي عليه من مسؤولية ولم تقدر، لكي تهاب القوانين التي وضعوها ولم تهب، فمضى هؤلاء يسرقون من أموال الوطن في وضح النهار، دون استحياء، فيما الناس يربطون الأحزمة على أحلامهم، وطموحاتهم من أجل دعم قوة الوطن، لكن الوطن يتعرض للسرقة مهما حاولنا أن نخفف من هذه الحقيقة المؤلمة، تسرق مكانته قبل أمواله، وتسرق أسرار خططه قبل أن تكون مشاريع، وتسرق كفاءاته وهي تحترق إخلاصا، أليس هذا كافيا لكي نناديهم بأن يعيدوا لنا الوطن؟

أعيدوا لنا الوطن القوي الذي لم يملك أحد أن يتجرأ عليه من الداخل والخارج، أعيدوه لنا من هذه الأيدي العابثة التي لم تجيد شيئا من كل ما هو متوقع منها إلا العبث بمقدرات هذا البلد، فمضت تكتال بدون حساب من أمواله المخصصة للبناء والتطوير واللحاق بالعالم من حولنا، مضوا يحاصرون طموحات الوطن ويحجمونها ويصغرونها، ويصعبون كل شيء فيها، فغدا السهل عند الآخرين عندها صعبا، وأصبح الممكن عند غيرهم عندهم مستحيلا، وغدت الأموال الكبيرة عندهم تتمخض عن مشاريع صغيرة، ومضوا يتلون على الجميع كل يوم ألا يمكن أن ينجز في هذه البلد مشروعا عملاقا إن لم تمطر علينا السماء مليارات ليل نهار، مضوا يتحججون بكل شيء لكي لا يعملوا شيئا إلا استغلال أية فرصة للنيل من أموال هذا الوطن، لكي يغتنوا هم ويفتقر الوطن، لكي يقووا ويضعف الوطن.

اتركوا لهم ملاينهم التي سرقوها دون وجه حق، اتركوا لهم أراضيهم ومزارعهم التي اغتصبوها دون استحقاق، اتركوا لهم بناياتهم التي عمروها مما أخذوه من خزائن هذه الوطن، اتركوا لهم شركاتهم التي قامت على المبالغة في المشاريع المتواضعة التي تنفذها على أرض هذا الوطن، اتركوا لهم كل هذا وأعيدوا لنا الوطن لكي لا يضعفوه أكثر مما أضعفوه، ولكي لا ينالوا منه أكثر مما نالوا، ولكي لا يشوهونه أكثر مما شوهوه بأفعالهم المشينة، أعيدوا لنا الوطن لأن هؤلاء "سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" بمعنى الوطن وقدسيته كما نؤمن به، فلما تتركوه بأيديهم وقد كفروا به وخانوه؟ ليس مرة واحدة إنما عشرات المرات، ومع ذلك يصرون أنّهم هم الأمناء على هذا الوطن، وما يقومون به لا يمكن أن نفهم أو ندركه وهم محقون كيف لنا أن نفهم لِمَ يقوم مسؤول بسرقة وطنه.

اتركوا لهم التنافس اللامشروع على حساب الوطن، اتركوا لهم صناعة وطنهم الخاص بهم الذي يدينون له بالولاء والانتماء، والذي يناضلون لتقدمه ونموه وتنميته، وهو المال، وأعيدوا لنا وطننا الذي نتنافس من أجل تقدمه، ولا نريد منه إلا أن نراه قويا منيعا، أعيدوا لنا الوطن لكي نحافظ على هيبته.. الوطن الممتد عبر القارات.. الإمبراطورية العظيمة والقلاع المنيعة.. منبع المفاخر التي عرفها القاصي والداني عبر التاريخ، وطن السفن التي تجلد أمواج المحيطات، أعيدوه لنا من هذه الأيدي الآثمة التي لا تصل لذروة سعادتها إلا حين تبيع وتشتري في هذا الوطن، فلِمَ يترك الوطن سلعة رخيصة بأيديهم؟

اقبضوا عليهم أو اتركوهم، حاسبوهم أو اعفوا عنهم، استردوا ما سطوا عليه أو ابقوه لهم، لكم ما تشاؤون ولكن أعيدوا لنا الوطن من أيديهم حتى لا يغرقوه أكثر في ظل هذه التحديات الجسام، أعيدوا الوطن لهؤلاء الشباب المتعلمين المبدعين المتحمسين لبناء وطنهم والذين ضيّق هؤلاء العابثين فرص العيش والعمل أمامهم، أعيدوا الوطن للذين قبلوه وتفهموا في كل حالاته ولم ينالوا منه رغم احتياجهم إلا أقل مما يحتاجون، أعيدوا الوطن للذين لا يزالون يزرعون أحلامهم لتنبت في أرضه.. أعيدوه للذين لا يزالون يفرحون بإنجازاته من داخل قلوبهم أعيدوه لهم من أولئك الذين لا يفرحون إلا بأمواله ومناقصاته.

اتركوا لهم الظهور في صور الحفلات والاحتفالات واتركوا لنا الميدان، اتركوا لهم المقاعد الأولى ودعونا نقف من أجل الوطن، اتركوا لهم الأقوال الكبيرة ودعوا لنا الأفعال، اتركوا لهم الألقاب والصفات ودعوا لنا الوطن نعمل فيه مخلصين له أوفياء بدون ألقاب، فقد بتنا نخشى على الوطن أكثر مما مضى.