طالب الرفاعي (في الهُنا) بين مكان السارد وزمان المسرود عنه (2- 2)

...
...
...


أ.د/ يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

أما الشخصية التي قامت بالدور الأهم في تشكيل صفات كوثر النفسية فهي الأب الذي أخذت عنه الكثير منذ اللحظة التي قرر أنت تكون ابنه وابنته في آن، فتعلمت منه حرية الفكر، وشرب القهوة، والقراءة، وجعلها (دلوعة بابا) التي لن يجبرها على الزواج من رجل لا تحبه:
"يخاطب أمّي التي لا يعجبها أسلوب كلامه معي:
ـ لن نجبرها على رجل لا تحبّه.
يا أبي ما جبرتني على رجل، لكنك انتفضتَ، ولم تسمح لي بالزواج ممن أحب"، ص83.
غير أن الأب حين خسر حلمه تحوّل إلى نقيضه، ابتلع إهانة (الحراك الشعبي العربي) لسقف طموحاته، وابتلع غصة تسلل المتأسملين إلى السلطة، وخضع لحكم المجتمع حين اعترض على زواجها من شيعي، وعلى استقلالها في شقة خاصة، والتحق بركب الخاضعين لسلطة المجتمع والمذهب، إلى أن مات حسرة وكمداً بالسكتة القلبية: "هل مات بحسرة خيبة تحقق حلمه العربي؟ هل تهشم حلم أبي بصدره؟ هل كان مآل الحراك الشعبي مخيّباً لرجل عاش يحلم بوطن عربي واحد، حتى قضى عليه وأماته"، ص ص104ـ 105.
وقد عاشت عمتها مثل هذا الارتداد، وتحوّلت نتيجة الضغط إلى خاضعة لسلطة المجتمع والمذهب، بعد أن تحّدتهما؛ إذ تزوجت سنيّاً، بالرغم من معارضة الجميع (باستثناء والد كوثر)، ويمكن أن نجلّي سبب خضوعها وتحوّلها من خلال السياقين التاليين:
•    "ـ مشكلة بناتي.
لم افهم فصدها.
ـ أنا وأبوهم لا شيء يكدّر علاقتنا، سوى مشكلتنا التي تعرفين: شيعية وسنّي"، ص140.
•    "كبرن، وأخاف عليهن من العنوسة"
"ـ ألن تعودي إلى بيتكم"، ص141.
وتبدو الأم نموذجاً أكثر من كونها شخصية ذات أبعاد نفسية، تماماً مثل العم باقر، وقد تحدتهما كوثر، ولم يفعلا شيئاً أكثر من التهديد لإيقاف مشروعها الشخصي، وفيما يلي سياقان ينقلان ردود أفعال كلّ منهما على خروج كوثر إلى شقتها الجديدة.
•    "فمشيتُ أنا صوبَ الباب ليودعني صوتها:
ـ إلى جهنم"، ص127.
•    "ودون مقدمات صرخ بي عمي:
ـ سنقتلك.
استغربت كلمته، رحتُ أنظر إليه، وأستوضح منه باستخفاف، سألته:
ـ من أنتم؟
ـ العائلة كلها،"، ص112.
* * * * *
وعلى مدى ثلاثة عشر مقطعاً سردياً، يتناوب الساردان (طالب وكوثر) تقديم حكايتها مع مشاري، وعلى الرغم من أنّ طالب يسرد خمس مقاطع (1، 4، 7، 10، 13)، إلا أنه لا يقترب كثيراً من شخصية كوثر، ولا يدخلها في أتّون حكايتها، بل يترك لها في المقاطع الثمانية الأخرى أن تتحدث عن نفسها بالطريقة التي ترغب، منوّعة بشكل بديع بين الضمائر، بينما يكتفي بدور (ضابط إيقاع الحكاية) على أنغام أغنية محلّية هي: "قلت اوقفي لي وارفعي البوشيّة"، ص7.
يبدو طالب/ السارد هنا مشغولاً بفعل الكتابة ذاته، ولا يتدخّل إلا حين تفرض عليه كوثر التدخل في حكايتها، بينما تقدّم هي الحكاية من خلال استرجاعات زمنية تعود إلى بدايات علاقتها مع مشاري الموظف الكبير والشخصية المرموقة في المجتمع، الذي كان يلاحقها وهي تتهرب، على الرغم من اعترافها بارتكابها حماقة اللقاء الأول في مكتبه، حيث تطلب منه أن يبقيا "في علاقة العمل"، ص26، إلا أن حبل تماسكها لا يصمد أمام إصراره: "مع مرور الأيام، وإصرارك على ملاحقتي، ارتخى حبل تماسكي"، ص28، فهي تسلمه قياد قلبها على الرغم من أنه سنيّ (وهي شيعية) في مجتمع يرى الاندماج المذهبي سبّة، ومتزوج وله ثلاثة أطفال. وتستمر علاقتهما متوترة، ومتصاعدة إلى الذروة بشكل عام؛ حتى يتفقا على الزواج السري الذي لا يعجبها، وتقف الحكاية قبل أن نعرف ما إذا كان الزواج قد تمّ فعلاً: "كوثر ومشاري.. لا اعلم ما آلت إليه علاقتهما، ولن أكتب حرفاً إضافياً عمّا خطته هي عن نفسها"، ص160.
يبدو موقف السارد طالب طريفاً، ومتميزاً عن طالب الكاتب، إذ يبقى سارداً داخلياً، يكتب بلا تدخل، حتى حين تزوره كوثر (ابنة صديقه) ومشاري، لا يغادر موقعه، بوصفه سارداً محايداً، إلا في حدود ضيّقة. بل إنّ الدور الذي قامت به الأغنية التي تمت الإشارة إليها بقي خارج الفعل الحكائي؛ إذا لا حكاية لطالب سوى كونه سارداً يطرح على القارئ حكاية شبه خارجية، معبراً في بعض مقاطعها عن أزمة الكتابة.
وفي ظنّي أنه كان بإمكان الكاتب الاستغناء عن المقاطع الخمسة التي أسند فيها السرد لطالب؛ فهي جميعاً تتضافر لتقدّم تلك الأغنية، وتصف حركات النساء الراقصات على أنغامها، وربما كان من الممكن الاستعانة بالأغنية ذاتها، والإشارة إليها في سياقات روائية تشبه السياق الي تحدّثت فيه كوثر عن "سفرة القران" التي تجتهد أمها في عملها: "صينية وعليها بعض الحلوى، يتوسطها القرآن؛ كدستور حياة، ومرآة لامعة تردّ العين والحسد عن الزوجين"، ص81.
في المقطع الأول من الرّواية الذي يرويه طالب نقرأ:
"قلت اوقفي لي وارفعي البوشيّة       خليني أروي ضامر العطشاني
شجياً لوحته السنون، ينسابُ صوت المطرب "محمود الكويتي"، ينتشر ملوّناً جدران غرفة مكتبي المغلقة، يترنّم بلحن حمد الرجيب لـ "سامرية"، الشاعر خميس بن محمد الشمّري"، ص7.
وفي المقطع الثاني الذي يرويه (الرابع في الترتيب) يبني سرده على الأغنية نفسها:
"ويمرجحني صوت محمود الكويتي بكلمات الشمري:
شفت الجدايل واحسبك روميّة      ثاري الزلوف مقرّضة يا اخواني
أغيب بخيالاتي مع مراة جريئة، بزلوف شعرها القصيرة"، ص40.
غير أن هذا التوازي بين المقاطع، وبين وظيفتي الساردَين، سرعان ما يبدو مألوفاً، خاصة في المقاطع السردية التي تعود لطالب، ومن حق القارئ ألا تجرحه ألفة السرد التي تؤدي إلى الملل، والاعتراض هنا ليس على التقنية بل على تكرارها؛ فتكرار الإبداع ليس إبداعا؛ لأنه يصبح متوقّعاً لا إدهاش فيه:
"هنا في غرفة مكتبي، يعاود اللحن المتماوج في روحي، فأنصت:
الخد ياضي لي برق وسميه      والعين تشبه ساعة الرّباني
أتخيل تناغم خطو راقصات السامري"، ص75.
وللحقّ فإن طالب السارد يكسر ألفة المقاطع التي يسردها، حين تظهر والدته المتوفاة في مكتبه لتقول: تأخرت يا وليدي.
"أمي، لقد صعدت روحك إلى بارئها في الثالث والعشرين من سبتمبر 2006، بينما كنت مع ابنتي فرح أثناء دراستها للماجستير في ولاية كولورادو الامريكية"، ص158.
* * * * * *
يشار إلى أن اللغة التي يستخدمها طالب الرفاعي في هذه الرواية سردية إخبارية بشكل عام، ولا يكاد السرد يتوقف خاصة في المقاطع التي سردتها كوثر. وقد جاء ذلك على حساب السرد الوصفي؛ إذ خلت الرواية تقريباً من تلك الميزة الفارقة التي تميزها من الفنون الحكائية القصيرة. وقد طغت الذهنية على بعض مقاطعها، وإن كان ذلك لا يعني فقدانها تماماً، وارتفعت لغة التنظير والتحليل:
•    "أنت رجل يريد لسمعة حياته الزوجية في العلن أن تبدو ناصعة البياض، تنعم بالاستقرار والهدوء بعيداً عن أي أقاويل أو شائعات، ويريد لقلبه أن يخفق بمتعة اللهو مع أي امرأة أخرى غير زوجته"، ص13.
•    "ما الذي غيّر أبي؟
الشعوب تحرّكت.
ظلّ يكرر عليّ. قلت له مرة:
الأحزاب المتأسلمة قفزت على السلطة"، ص60
وقد حملت تلك اللغة بعداً اجتماعياً ممتزجاً ببعد ديني في بعض الأحيان، على نحو ما نجد في السياقين التاليين:
•    "أنت لا تريد أن تخرّب هدوء عائلتك، وتخدش صورتك أمام المجتمع"، ص32.
•    "أترضى لزوجتك الخروج مع رجل؟
انتفضتَ كما لو أنّ عقرباً لدغك.
(...) الزمي حدودك"، ص17.
•    "ـ أنت لا تريد لخبر زواجنا أن ينتشر. قلت لي بنبرة فاترة:
ـ على الأقل، ليس الآن"، ص19.
أما امتزاج الاجتماعي بالديني، فيتجلّى في تخصيص مفهوم الهداية؛ إذ صار المجتمع يرى في الحجاب تمام الهداية، ويجّرد غير المحجبة من الإيمان، مهما كان الحجاب يخفي خلفه من عيوب، فكأنه وحده يجبها ويمنح صك براءة منها، ومن الأفعال التي تخدش الحياء، كتلك التي لمّحت بها كوثر لابنة عمتها خولة في آخر أيام عزائها بأبيها، مشيرة إلى أنها تعرف ماضي خولة بتفاصيله:
"ـ عسى الله يهديك.
ـ ويهديكِ أنتِ.
أجبتُها، فردّت بقولها:
ـ أنا محجبة"، ص106.
وقد برز البعد الديني/ المذهبي في أقسى تجلياته؛ عندما رفض الأب تزويج كوثر من مشاري، وهو القومي الليبرالي، وهو الذي زوّج عمتها من حبيبها السني برغم اعتراض العائلة، محاولاً الاختباء خلف سبب اجتماعي، هو كون مشاري متزوجاً، وله ثلاثة أطفال. غير أنّ الأم تعيد المشكلة إلى أصلها المذهبي، وتستنجد البنت بأبيها دون جدوى:
"ولا أدري من أين انبعثت أمي، فأنا لم أنتبه لوجودها. قالت مخاطبة أبي:
ـ دلوعة بابا تتزوج سنياً!
ولأنّ نظراتنا تقابلت خاطبتني بضيق واضح:
طوال عمرك تأتين بالمشاكل.
رحتُ أنظر لأبي كي يردّ عليها، لكنّه ظلّ ساكتاً، وكأنه يوافقها الرأي"، ص55.
* * * * *
يمكن القول باختصار: إن رواية "في الهُنا" لطالب الرفاعي رواية تمت هندستُها بدقة، وتمّ التركيز فيها على صناعة الحكاية دون سرد وصفي، كما أفاد الروائي فيها تقنية إدخال المؤلف في السرد، معتمداً على ساردين، لم يعزّزهما بثالث ضروري، مستخدماً لغة إخبارية أو ذهنية، قلّ أن تنحو نحو شعرية السرد.

 

تعليق عبر الفيس بوك