حين يكون "التكديس" سياسة تنموية!

د. سيف بن ناصر المعمري

 

التنمية غير مبنية على المحاولة والخطأ؛ وإلا فهي تنمية لا تقوم على رؤية واضحة ومحددة، تضع أهدافا لكل قانون أو سياسة أو إجراء، وبناءً على ذلك تزيد من فرص التقدم والمضي إلى الأمام وتقل من المخاطر والإشكاليات التي تترتب عليها كلفة مالية، وأيضا بشرية مرتبطة باستثمار المورد البشري.

ولأنّ هذه العملية تحكمها دائما مبادئ وأطر لا تتغير بتغير الزمن لابد من الاحتكام إليها في مثل هذه الأوقات الصعبة التي تمر فيها تنميتها؛ فنحن في مفترق طرق وعلينا ألا نطيل الوقوف حيارى نفكر أي الطرق نسلك، وقد عرفنا من خلال تجربتنا خلال هذه السنوات الطرق المسدودة التي مضينا فيها، وعلينا أن نعترف أنّ هناك بعض الأخطاء خلال العقود الماضية في التخطيط في القطاعات الحيوية في البلد ونعني بها أهم ثلاث قطاعات: التخطيط الاقتصادي، والتخطيط للعمل، والتخطيط للتعليم، وأخطر ما في السياسات التي اتخذت في هذه القطاعات هي ما يمكن أن نطلق عليه "سياسة التكديس".

ففي مجال التخطيط الاقتصادي عملت المؤسسات المعنية فيه على "تكديس" كل التقارير والتوصيات والخطط والنداءات التي تطالبها بالتنويع الاقتصادي منذ ما يقرب من أربعة عقود، كما عملت على "تكديس" كثير من المشاريع الحيوية على طاولة الانتظار لسنوات طويلة كانت كفيلة بتحريك الحيوية في الاقتصاد وتنويعه وإيجاد فرصة عمل للشباب الباحثين عن عمل الذين تزايد عددهم خلال هذه العقود، فلم يكن نشعر أن العدد انخفض حتى يرتفع مرة أخرى، فنحن دولة شابة- لا مجال لتجاهل هذه الحقيقة- يتزايد فيها الشباب عاما بعد آخر ويزداد طلبهم للعمل النوعي والحياة الكريمة، ولذا فالسؤال الذي نواجه ويجب أن ننصت إليه ولو مرة ونتعامل معه بجدية من قبل المسؤولين عن الاقتصاد هل ستستمر سياسة "التكديس الاقتصادي" حتى في ظل التحديات التي نواجهها وتتزايد عاما تلو الآخر، أما أنّكم سوف تواجهون هذه السياسة؟!

أمّا سياسة "التكديس" في مجال العمل فهي واضحة للعيان، لا يمكن تجاهلها، فرغم عشرات القوانين والتشريعات والقرارات لا تزال "أجندة" التعمين مكدسة لا أحد يراجعها، أو يكترث لها، ولا تزال العمالة الوافدة "تتكدس" في المشاريع الكبرى التي أنشأتها البلد وأعلن المسؤولون أنّها ستوفر آلاف فرص العمل للشباب العماني، إلا أنّ السنوات أثبتت عكس ذلك، فتكدست طلبات التوظيف في المهن الدنيا للشباب العمانيين من حملة المؤهلات العلمية العليا؛ بل إنّ المؤسسات لم تعد تخجل رغم "تكدس" طلبات التوظيف من عنونة إعلاناتها  بعبارة "وظائف لغير العمانيين" ولم نجد حتى اليوم أي دولة في العالم في ظل أزمات فرص العمل لمواطنيها تنشر إعلانات بهذا الشكل. الأرقام التي تتداول حتى الآن عن عدد الباحثين عن عمل متباينة ولكن الجميع يجمع أنها أكثر من 40 ألفا، إلى جانب ذلك تشير الإحصاءات التي نشرتها جريدة الرؤية في يونيو 2018 إلى أنه من أصل 246 ألف عامل عماني بالقطاع الخاص يتقاضى 131 ألفا منهم رواتب أقل من 500 ريال عماني، وبالتالي لدينا "تدكسا" في عدم صناعة وظائف أفضل لشبابنا طوال هذه العقود من رفع سياسة التعمين.

إلى متى سوف تستمر سياسة "التكديس" في ملف العمل ونحن نواجه هذه التحولات الاقتصادية؟ وما الذي سينتج من من مشكلات اقتصادية لهذه الفئة الكبيرة من أبناء الوطن؟ هذه أسئلة لا تزال قائمة تنتظر من يفكر فيها ويعمل على الإجابة عنها.

أمّا "التكديس" في قطاع التعلم فهو أشد أثرا، لأنّ هذا القطاع  شهد نموا أكبر من نمو فرص العمل والتوظيف، وشهد فتح تخصصات وبرامج كثيرة متشابهة قادت إلى تخريج آلاف من الخريجين ممن يحملون نفس التخصصات الهندسية والتجارية والتقنية ولم يتغير المسار، رغم انحسار فرص العمل لهم، ورغم "تكديس" عدد كبير من التقارير الدولية، والوطنية، والدراسات والأبحاث، والتوجيهات الحكومية وفي مقدمتها نداء حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم في عام 2012، إلا إنّ هذا القطاع واصل "تكديس" نفس التخصصات، ونفس "البرامج" ونفس "المؤهلات"، ولا يزال يعمل بنهج "التكديس"، ناهيك عن "تكديس" فرص عمل ليس فيها فرص متكافئة للعمانيين، وكأنّ هذا القطاع "قلعة حصينة" عصية على رياح التغيير التي ينادي بها الجميع من أجل تجاوز هذه الإشكاليات التنموية، والسؤال إلى متى سيظل هذا النهج؟ ومن سيدفع الفاتورة الكبيرة لهدر طاقات الموارد البشرية؟

إنّ التكديس هو سياسة تنموية مفلسفة جدا، لا تقود إلا إلى "تكديس" المشكلات والمخاطر، وأيضا تعطيل التنمية عن تحقيق أهدافها، وتأخير حركة البناء الفعلي الثابت، ولقد حذّر المفكر الجزائري مالك  بن نبي من هذه السياسة منذ عقود طويلة حين قال "علينا أن نبني لا أن نكدس، فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس"، وبالتالي علينا أن ندرك أنّ تكديس عشرات المؤسسات واللجان والمجالس والمؤتمرات والخريجين؛ لا يعني أننا نبني بشكل جيد، أو أننا ننمو بشكل صحيح، علينا أن نتعامل مع جذور المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لا مع نتائجها، وإلا فإننا لن نحد من استفحالها، نقول هذا من قبل الحرص على هذا الوطن، ونُدرك أنّ هذا الحرص لن تدركه إلا فئة تدرك معناه وقيمته، وتستشعر عمق التحديات التي لا بد أن نتعامل معها اليوم وليس غدًا.