48 عامًا من الحكمة في إدارة علاقات السلطنة مع دول العالم

مَن دخَل "واحة قابوس" فهو آمِن

...
...
...
...
...

< 136 دولة ترفع شعارات حركة "عدم الانحياز".. والسلطان قابوس جعلها أمرا واقعا وأسلوب حياة

< نصف قرن انقلب فيه العالم يمينا ويسارا.. وبقيت السلطنة واحة آمنة في عالم ليس كذلك

< في الثلاثين من عمره.. أدار قابوس معاركه الدبلوماسية بخبرة حكيم.. والنتائج شاهدة

< "عُمان قابوس" تُفرّق جيدا بين معاني العُزلة والحياد.. والخلط مسؤولية المزايدين

 

الرؤية - هيثم الغيتاوي

118 دولة تفخر بعضويتها في حركة "عدم الانحياز"؛ إلى جانب 18 دولة أخرى تشارك في الحركة بصفة "مراقب"؛ مما يعني أن 136 من إجمالي 196 دولة حول العالم تزعم التزامها أو تقديرها للمبادئ التي قامت على أساسها "عدم الانحياز" منذ 63 عاما في مؤتمر باندونج؛ فمن أين تأتينا الصراعات والحروب التي تأكل العالم شرقا وغربا؛ إن كان أكثر من ثلثي العالم يدَّعي احترامه "مبادئ باندونج" العشرة؟ أمامنا إجابة بسيطة عن سؤال ليس كذلك؛ مفادها أن كثيرين يرفعون شعارات "عدم الانحياز" والحياد الإيجابي؛ قليلون مَن جعلوها أمرا واقعا وأسلوب حياة؛ وفي مقدمة هؤلاء تبرز التجربة العُمانية الرائدة تحت قيادة السلطان قابوس بن سعيد على مدى أكثر من 48 عاما حتى الآن.

 

ما يقرُب من نصف قرن من الزمان كان ولا يزال شاهدا على أحداث قلبت العالم يمينا ويسارا؛ بينما بقيت السلطنة واحة آمنة مستقرة؛ سلطانها مشغول ببناء البشر والحجر. نصف قرن شاهِد على حروب دارت رحاها بين أصحاب مصالح متضاربة؛ حقا وباطلا؛ وطالت نيرانها الجميع؛ حتى لامس بعضها حدود السلطنة؛ وبقيت عُمان ثابتة على مبادئها في إدارة السياسة الخارجية؛ غير خاضعة لـ"غوايات الزعامة" أو متورطة في صراعات ترى أن حلها مُمكن على طاولة المفاوضات؛ لا في ساحات الحروب.

هذه وغيرها مبادئ رسخها السلطان قابوس في نفوس العمانيين جميعا منذ أعلن في خطابه الأول (23 يوليو 1970): "أتطلع إلى التعاون الودي مع جميع الشعوب؛ خصوصا جيراننا؛ وأن يكون مفعول ذلك التعاون لزمن طويل". المبادئ ذاتها؛ عظّم السلطان قدرها بين شعبه حتى على مستوى السياسة الداخلية؛ في زمن كانت الفتن تهدِّد فيه مستقبل السلطنة؛ حيث استخدم القائد -مُبكرا- لغة تعبِّر عن فكره الذي سيحكم السلطنة على مدى عقود تالية؛ حين أشار في 9 أغسطس 1970 إلى الخلافات والصراعات الداخلية بين أبناء وطن يستعدُّ لبناء نهضته؛ بقوله: "أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي؛ أقول لهم: عفا الله عمَّا سلف؛ عفا الله عمَّا سلف". وبهذه الروح استطاعت عُمان أن تعبر مِحنتها داخليا وخارجيا؛ وتتفادى الأفخاخ الدولية التي ينصبها آخرون.. لها ولآخرين في المنطقة العربية.

 

"صبرا جميلا"

تاريخيًّا؛ يرتبكُ مَن يتأمل دراما وتحولات العلاقات الرسمية على مستوى الخليج العربي؛ خصوصا عند مراقبة المشهد من خارجه؛ ومن ذلك مثلا أسلوب تعامل السلطان قابوس مع المحيط الإقليمي للسلطنة في بداية حكمه؛ بعقلية وخبرة حكيم؛ رغم أنه كان لا يزال شابا في الثلاثين من عمره؛ عندما لم تبادر المملكة العربية السعودية واليمن الجنوبي للاعتراف سريعا بقابوس سلطانا على عُمان؛ بل وعطّلت السعودية انضمام السلطنة لجامعة الدول العربية لعدة أشهر؛ وحين تقدمت السلطنة للانضمام للأمم المتحدة، أيّدتها في ذلك 117 دولة عربية وأجنبية، بينما اعترض اليمن الجنوبي، كما امتنعت المملكة العربية السعودية عن التصويت للسلطنة! فماذا تتوقع مِن شاب في الثلاثين من عمره يرى الجار والشقيق يردَّان على مبادرة "التعاون الودّي" بتعنت وعناد؟

على خلاف ما قد تفترضه من ردود فعل حماسية ومندفعة تفرضها طبيعة الشباب؛ أدار القائد الشاب معاركه الدبلوماسية بحكمة مُلهِمة؛ لم تقِل عن قدرته على إدارة المواجهات العسكرية بجنوب بلاده في المرحلة ذاتها. طال صبره الدبلوماسي؛ وكان له -ولبلاده- ما أراد في النهاية.. وما آلت إليه الأوضاع من حسمٍ للقضايا الحدودية مع السعودية واليمن والإمارات أيضا خير شاهد على نتائج هذه السياسة.

في كلِّ مرة كان السلطان قابوس يخوض "معاركه السلمية" وزاده فيها "صبرا جميلا"؛ وإن امتلك من القوة ما يكفيه لحسمها بأكثر من وسيلة. في تجارب تاريخية أخرى تقوم حروب مأساوية لمثل هذه الأسباب، بل ولأسباب أقل منها شأنا؛ وقد تُحقِق أهدافها أو تفشل في ذلك.. فماذا نقول إن تحققت الأهداف دون توريط الشعب والجيش من الأساس؟ هل نبالغ في مثل هذه الحالات بالقول إن القائد إذا جسَّد المعاني الإيجابية لـ"ضبط النفس"، وحفظ لوطنه حدوده ومكتسباته، كان جيشا في حد ذاته؟ "جيش سلمي" يجلب نصره في كل مرة؛ مُبقيا سلاحه خيارًا أخيرا؛ على خلاف ما اعتاده "المفتونون بالزعامة" ولو على حساب مقدرات شعوبهم في كل مكان.

 

"ثبات انفعالي" مُلهِم

وحين انقلبَ العرب على مصر رفضًا لمبادرة الرئيس السادات لعقد اتفاق سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد انتصار أكتوبر 1973؛ رفض السلطان قابوس قطع العلاقات مع مصر؛ وأوضح أنَّ من حق كل دولة إدارة مصالح شعبها حربا وسِلما. وكما أصدر جلالة السلطان قابوس مرسوما في 13 أكتوبر 1973 يقضي بالتبرع بربع رواتب الموظفين العُمانيين لدعم الجيشين المصري والسوري في حرب التحرير؛ اختار أيضا أن يدعم مصر في معركتها الدبلوماسية، على خلاف ما ذهب إليه قادة آخرون؛ لقناعته بصحة رأيه ورؤيته للمشهد؛ وقراءته الموضوعية للأمر الواقع؛ فماذا كانت النتيجة؟

مرَّت الأيام؛ وعاد العرب الذين قاطعوا مصر ونقلوا مقرَّ جامعة الدول العربية من عاصمتها إلى تونس لعشر سنوات وأكثر؛ عادوا للاعتراف بأنَّ المقاطعة ليست حلًّا بين أشقاء. أعادوا مقر الجامعة إلى القاهرة، وأدركوا -وإن تحرّجوا في إعلان ذلك- أن الوحيد من بينهم الذي قرأ المشهد مُبكرا بشكل صحيح كان السلطان قابوس. هل تحتاج هنا إلى مُحاضرة مُلهِمة عن جدوى "الثبات الانفعالي" المتواصِل على مدى سنوات وعقود؟ حسبُك من الديباجات تأمُل ذلك المشهد.

 

"سويسرا الخليج"

منذ العام 1515، وسويسرا تلتزم سياسة الحياد؛ حتى قبل أن تعترف القوى الأوروبية بذلك الحياد رسميا في العام 1648 ضمن صياغة صلح "وستفاليا" الذي يُعرف بأول اتفاق دبلوماسي في العصر الحديث مبني على "مبدأ سيادة الدول"؛ ذلك الذي يضمن لكافة الدول الحقَّ في تسيير شؤونها الداخلية والخارجية دون تدخل أطراف أجنبية. وحين قامت "عصبة الأمم" في 1920 اختارت جنيف؛ عاصمة سويسرا؛ مقرا للمنظمة التي مهَّدت فيما بعد لظهور الأمم المتحدة. وبرغم وجود سويسرا في قلب أوروبا؛ إلا أنَّها لم تنضم للاتحاد الأوروبي؛ وإن انضمت لاتفاقية "شنجن"؛ والأهم أنها لم تنضم لحلف "الناتو" العسكري. ولم يعنِ حياد سويسرا أبدا تهاونها في شؤون الدفاع؛ فقد شهد القرن الماضي مثلا حربين عالميتين حاصرتْ نيرانهما سويسرا من مختلف الجهات؛ كانت أوروبا تحترق وسويسرا تُتابع بحذر تهديدات هتلر بغزوها، رغم حيادها المُعلَن والممتد لأربعة قرون ويزيد؛ وكلها أمور جعلت سويسرا تعرف مراحل "الحياد المُسلح".. حياد لا ينفي القدرة على مواجهة الاعتداء؛ متى اقتضت الضرورة ذلك.

ودُون إعلان رسمي أو حاجة لاعتراف دولي؛ فرضتْ سلطنة عُمان حيادها في محيطها الإقليمي -وتجاه العالم أجمع- كأمر واقع ومُمارسة ملمُوسة على مدى نصف قرن؛ حتى باتتْ تُعرف في الأوساط الدبلوماسية بـ"سويسرا الخليج"؛ وإنْ كان الأمر الواقع أيضًا يمنحها لقبًا أكثر عمقا واتساعًا إذا ما قُورنت سياستها بسياسات العرب جميعًا في العقود الخمسة الأخيرة: "سويسرا العرب"، لا الخليج فحسب.

يُصنِّف المزايدون حيادَ السلطنة باعتباره "عُزلة اختيارية"؛ رغم أنَّ هؤلاء المُنظِّرين أنفسهم حين يتحدثون عن تجارب أخرى للحياد الدولي يدبِّجون مقالات وتقارير غارقة في فنون الإنشاء الفارغ حول تجارب الحياد في السويد والنمسا وإيرلندا وتركمانستان وكوستاريكا وفنلندا... وغيرها. يُردِّدون ذلك لغرض في نفوسهم؛ رغم أنَّ "عُمان قابوس" تُفرّق جيدا بين معاني العُزلة والحياد؛ بل تفرّق بالممارسة بين نموذج الحياد السويسري في المطلق؛ ونهج الحياد الإيجابي الذي يجعل السلطنة في كل مرة ساحة للتفاوض والتقارب والصلح بين الفرقاء؛ على المستويين العربي والعالمي. وإنْ كانت العُزلة في نظر "تُجار الزعامة" تعني التمسُّك بخيار السلام الدائم والحياد الإيجابي والنأي بالنفس عن التورُّط في شؤون الآخرين، والاكتفاء بالتعاون مع الجميع في مجالات التنمية؛ لا الإثم والعدوان؛ فأعظِم بها من "عُزلة"! وهل يكون اللوم حينها على من يتمسَّك بهذه المبادئ السامية أيًّا كان وصفها؛ أم على مَن اختلت في نظرهم معايير العلاقات ودلالات المصطلحات؟

وقد بادرتْ السلطنة بالانتماء للجامعة العربية والأمم المتحدة، دون أن تسمح بأن يُفرَض عليها ما يُغير مَبادئها المستقرة منذ سبعينيات القرن العشرين، لذلك شاركتْ عُمان في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 25 مايو 1981؛ لكنها بعد 30 سنة تقريبًا رفضت مُقترحًا بتحويل المجلس من إطار للتفاهم والتعاون إلى اتحاد اندماجي على أُسس غير واقعية؛ قد لا تخلو بطبيعة الحال من أغراض "الهيمنة"، أو الرغبة في ممارسة تأثير إقليمي رُبَّما ينتقص من مبادئ السيادة الوطنية؛ والأخطر من ذلك: فرضية التورُّط في حِلف أو تكتُّل عسكري معادٍ لآخرين؛ على خلاف ما تؤمِن به القيادة العُمانية وشعبها في هذا الجانب.

 

واحة آمنة في عالم ليس كذلك

وفي الدورة الثالثة لمجلس التعاون الخليجي، أيَّدت السلطنة تشكيلَ قوَّة عسكرية مُشتركة باسم "درع الجزيرة" لأغراض دفاعية. وبعد مُحاولات دبلوماسية مُتشعبة، وسعي دؤوب من جانب السلطنة لرأب الصدع بين الأشقاء إبان اجتياح "عراق صدام" للكويت؛ لم تتأخَّر عُمان عن المشاركة بقواتها في حرب تحرير الكويت؛ بعد أن باتت الجهود الدبلوماسية غير ذات جدوى. ولأنَّ "لكل حادثة حديث"؛ لم تُؤيد السلطنة الحل العسكري الذي لجأت إليه دول مجلس التعاون ذاتها -بدعم مِمَّا عُرف باسم التحالف العربي- لإنهاء أزمة الصراع في اليمن؛ إذ شدَّدت عُمان على أنه لا حل إلا بالتفاوض؛ وأنَّ المواجهات؛ طال أمدُها أو قصُر؛ مصيرها إلى طاولة التفاوض.. وهو ما تُثبته الوقائع يوما بعد يوم؛ منذ انطلاق ما عُرف بـ"عاصفة الحزم" ومن بعدها "عمليات إعادة الأمل" التي فشلتْ حتى الآن في إثبات أي حَزم أو إعادة أي أمل؛ وصار الجميع -على الجانبين- يبحثون عن مَخرَج تفاوضي يُنهي الأزمة بشكل يحفظ "ماء الوجه" بعد سقوط عشرات الآلاف من الضحايا. عودة إلى المربع صفر؛ تذكّر هؤلاء الذين زَايدوا كعادتهم على مواقف السلطنة وأسلوبها في إدارة علاقاتها الخارجية بأن "ما هكذا تورد الإبل"!

وعلى هذا المنوال؛ يُمكن تتبُّع مسار السياسة الخارجية المحايدة التي تنفرد بها السلطنة عربيًّا على مدار نصف قرن. في كلِّ مرة كانت الأيام تُثبت للجميع أنَّ طرح قابوس المغاير أولى بالبحث والمناقشة والتقييم من اللجوء لخيارات شعبوية هنا وهناك: إبان الحرب العراقية-الإيرانية مثلا؛ تمسَّكت السلطنة بنداءات السلام؛ وعبَّر السلطان قابوس مرارا وتكرارا عن استيائه من اللجوء لخيار الحرب بين الجارتين. كما عبَّرت عُمان عن رفضها طرد سوريا من جامعة الدول العربية في السنوات الأخيرة؛ باعتباره إجراءً يصبُّ في مصلحة "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق. وكذلك امتنعتْ السلطنة عن "مُقاطعة" قطر حين سارع إلى ذلك آخرون؛ مُتمسِّكة بمبدأ التفاوض لإنهاء الخلافات بين الأشقاء؛ وحتى بَيْن ألد الأعداء؛ وليس أدل على ذلك من الدور العُماني في إتمام الاتفاق الأمريكي الإيراني بشأن البرنامج النووي؛ والذي يعد من أهم نجاحات الدبلوماسية العمانية في السنوات الأخيرة.

وأخيرًا.. ضمنت سياسة "تصفير المُشكلات" و"النأي بالنفس" للسلطنة وأهلها نِصف قرن من البناء والتعمير والتطوير؛ حتى باتتْ عُمان اليوم في عهد سُلطانها المؤسِّس مَضْربًا للأمثال في الاستقرار والأمان في عالمٍ ليس كذلك؛ لذلك أنت تُصدِّق تماما محبَّة العُمانيين الخالصة لشخص قابوس حين يُلحقون اسمه دائمًا بدعاء ورجاء من نوعية "حَفِظه الله ورعاه"؛ "أعزَّه الله"؛ و"أبقاه الله"؛ وكأنهم بذلك يُقرّون بفضلِ وحكمةِ الرجل الذي حَفظ مُكتسباتهم من كل مغامرة ومقامرة؛ فدَعوا الله أن يحفظ بلادهم بحفظِه؛ وأن يُعزهم بعزِه؛ وأن يُبقي على عُمان نعمة الأمان التي تتوق إليها كل الشعوب المحبة للحياة.

تعليق عبر الفيس بوك