قالت نخلة


محمد علي العوض
لا تكاد مقرراتنا الدراسية تخلو من قصيدةٍ أو بيتٍ للشاعر الكبير إيليا أبو ماضي، فقد كان شعره ذائع الصيت، خالدًا، نغمة محببة على كل شفاه؛ فما الذي كتب الخلود لشاعر حديث من حيث التقادم في وقت كانت فيه نظريّة الشعر تدخل مرحلة مخاض ما قبل "التفعيلة" وتعيد تعريف ماهيّة الشعر، ووظيفته لدى شعراء الحداثة، وقولبة مستوياته الفنية كافة؛ من حيث الرؤية والأداة والشكل والمضمون؟
ما الذي يجعل قصائد أبو ماضي بتقليديته وسفينته التي لم تفارق بحور الخليلي تقارع الزمن، وتتحول إلى أيقونات لغوية حاضرة في كل موقف حياتي كحضور دار عبلة في شعر عنترة، وجنون قيس بليلي، وسقط اللوى الذي لم يعرفه الناس إلا عند امرئ القيس...؟
النزعة الإنسانية هي ما كتبت الخلود لإيليا أبو ماضي في جدارية الشعر العربي.. نزعة تنسرب بين مسارب القصيد فتمنح النفس البشرية مساحات أكثر رحابة، وحياة مثلى تسودها قيم الفضيلة والمساواة بين بني الإنسان.. كان أبو ماضي أحد الذين يشعرون بإنسانيتهم من خلال إنسانية الآخر، لذا حملت قصائده -كما يقول حاتم محمد علي- دعوة واضحة للمحبة والتأمل، والبحث عن البسمة وسط ركام الأحزان وغوادر الدهر:
قال السماء كئيبة وتجهّما** قلت ابتسم يكفي التجهّم في السما
قال الصبا ولّى فقلت له ابتسم** لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
ومن ذاك جوهرته الرائعة "فلسفة الحياة" التي حاول فيها إرسال صرخة في آذان المتذمرين، مذكرا إيّاهم بنعمة الصحة والعافية وشر النفس التي تتمنى الموت أو تحاول الانتحار قائلا:
أيهذا الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
إنّ شر الجناة في الأرض نفس تتوقى قبل الرحيل الرحيلا
وفيها يشبه من لا ينظر إلى الحياة من جانبها المشرق بالعين التي ترى الشوك فقط في الورود وتعمى عن رؤية الندى أو التمتع بجمال ألوان الزهر:
وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى الندى فوقها إكليلا
كان أبو ماضي داعيا للحرية "حرٌ ومذهب كل حر مذهبي" ويعدها منبتا خصبا لنمو مشاعر الحب، وحادبًا على أن يتحاب الناس وينبذوا الخصام:
لا يكن للخصام قلبك مأوى إنّ قلبي للحب أصبح معبدا
ويتصوف في ومن أجل هذا الحب ليصل من خلاله إلى معرفة نفسه وخالقها:
أنا في الحبّ قد وصلت إلى نفسي وبالحب قد عرفت الله
لإيليا قصائد مُصاغة بأسلوب الشعر القصصي، تصل بحسب بعضهم إلى أكثر من أربعين قصيدة زاخرة بوقائعها وشخصياتها، ورموزها وأساطيرها، وحركيةً بأحداثها وتعاقب سببياتها؛ يقصد الشاعر من ورائها العبرة والعظة، ويسير فيها على ذات نسقه الإنسانوي، ومنها قصيدة النخلة أو التينة الحمقاء، و"الشاعر والملك الجائر" وقصيدة "الشاعر والأمة" واللتان عرض فيهما الشاعر صورة ملكين نقيضين بين العدل والجور؛ فقصيدة "الشاعر والملك الجائر" تحكي على لسان أبو ماضي عن ملك ظالم يرى العالم من خلال سلطانه استدعى يوما ما شاعرًا وطلب منه أن يصف سطوته وملكه:
قال: صِفْ جاهي، ففي وصفك لي للشعر جاهُ إِنّ لـي القصر الذي لا تبلُغ الطيُر ذُراهُ
ولي الروض الـذي يعبَقُ بالمسـك ثراه ولي الجيش الذي ترشحُ بالموتِ ظِباهُ
ويمسك أبو ماضي بخيط الحكي محاورا؛ ومصورًا استخفاف الشاعر بعرش الملك المشيد من جماجم البشر، وسخريته من طلبه قائلا:
ضحك الشـاعرُ مما سمعتهُ اُذناهُ وتمنى أن يُداجي فعـصتهُ شفتاهُ
قال: إنّي لا أرى الأمرَ كما أنت تراه إِنّ ملكي قد طوى ملكك عني ومَحاهُ
لتصل بنا القصيدة إلى خلاصة أنّ حكم الشاعر ونصائحه أبقى في التاريخ مِن أفعال أي سلطان ظالم، وأنّ الفكرة الخالدة النافعة للإنسانية هي الأجدر بالبقاء بين دفتي الحياة" الميلاد والموت".. بينما تطالعنا قصيدة "الشاعر والأمّة" بصورة زاهية – نقيض للسابقة- للملك العادل الذي يعيش في كنفه شعب ينعم بالعدل والرخاء:
كان في ماضي الليالي أُمّةٌ خلع العِزُّ عليها حـِبَرَة
يجد النازلُ في أكنافها أوجهاً ضاحكة مستبشرة
كان فيها ملك ذو فطنة حازم يصفحُ عند المقدرة
ويتبدى ذات الأسلوب القصصي في قصيدة "ابتسم" بما فيها من حقلٍ معجميٍ ودلاليٍ معبرٍ عن مذهب أبو ماضي المقبل على الحياة، والقادر على رؤية كوة ضوء وسط اتساع الظلام. واستخدم فيها عددا من التقنيات السردية المتمثلة في تعدد الأصوات، والعرض المسرحي القائم على نمط الحوار المحكي في صيغة القول كوسيلة إقناع تعكس بعداً أيديولوجياً، بجانب الشخصيتين اللتين استدعاهما الشاعر في خطابه؛ وتمثلهما ذات الشاعر التي تؤدي مرة دور شخصية متجهمة/ متشائمة، وتارة أخرى دور شخصية مبتسمة/متفائلة:
قال التي كانت سمائي في الهوى** صارت لنفسي في الغرام جهنَّما
خانت عهودي بعد ما ملكتها قلبي** فكيف أطيق أن أتبسّما؟
قلت ابتسم وأطرب فلو قارنتها قضيت عمرك كله متألما
واستهلال الشاعر مشهده المسرحي هذا بعرض أقوال وانفعالات الشخصية المتجهمة دلالة على حرفية عالية، قصد الشاعر من ورائه تحقيق وظيفة السارد الانفعالية لجذب المتلقي للدخول في أجواء القصيدة المشحونة بالتوتر، ولينقل إليه عدوى الشخصية الأولى/المتشائمة حتى يكون مهيئًا بعدها لتلقف حجج الإقناع على لسان الشخصية الثانية/ المتفائلة، والتي تسعى لتعرية التجّهم، واستمالة وجهة النظر القاتمة إلى براحات أكثر اتساعًا واستشرافا.
أما قصيدته التينة أو النخلة الحمقاء فدعا فيها الإنسان إلى بذل ما لديه لينفع غيره، وهي تحكي عن نخلة كانت خضراء امتنعت مع سبق الإصرار عن الإثمار وظلت جدباء لمواسم عدة؛ بعلّة أنّها لن تثمر ما دام خيرها من متعة النظر وحلاوة الثمر قاصر على الطير والإنسان دونها:
إني مفصلةٌ ظلّي على جسدي فلا يكون به طولٌ ولا قِصَرُ
ولستُ مثمرةً إلا على ثقةٍ أن ليس يطرُقُني طيرٌ ولا بشرُ
عاد الربيع إلى الدنيا بموكبه فازَّينت واكتست بالسُندس والشجر
وظلّت النخلَةُ الحمقاءُ عاريةً كأنّها وَتدٌ في الأرضِ أو حَجرُ
وتخبرنا القصيدة في نهاياتها أنّ حمق النخلة ساقها إلى حتفها؛ فصاحب البستان لم يطق رؤيتها جدباء لذا جازاها بالاجتثاث والحرق:
ولم يُطِقْ صاحـب البستان رؤيتها فاجتثها فهوت في‌النار تستعرُ
ولتكشف الحكمة عن نفسها في البيت الأخير من القصيدة بأنّ الحياة أخذ وعطاء، ومتى ما كنت تستطيع مساعدة أخيك ولم تفعل فأنّت بلا قيمة في الحياة وستجد نفسك في خانة الغياب:
مَن ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنّه أحمقٌ بالحرص ينتحرُ