مشهد الساحرات!

 

مدرين المكتوميّة

مسرحية "ماكبث" إحدى الروائع التراجيدية التي ألفها الكاتب والشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير مطلع القرن السابع عشر، والتي لم تغادر منصّات المسارح حول العالم منذ العرض الأول لها وحتى يومنا هذا، لكن حين نستعرض هذه المسرحية وتفاصيلها يتضح لنا أنّها تمثل جانبا مما نعيشه ونتعايش معه في حياتنا الواقعية، في ظل الأزمات والحروب التي تعصف بالكثير من دول العالم، وتقضي على آلاف من الضحايا بدون ذنب أو جريرة.

المتتبع لثنائية السلطة والحكم في الروايات والأعمال المسرحية والأدبية بشكل عام، سيجد أنّ الصراع الأزلي على السلطة هو المهيمن على الحبكة الرئيسية، وأنّ القتل والتخلص من الآخر أول ما يمكن من خلاله الحصول على كرسي الحكم دون الحاجة لإثبات كفاءة أو قدرة على إدارة البلاد، ولكن عندما تتصاعد الأحداث وتقترب القصة من العقدة، تعتقد الشخصية البطل أنّ كل ما سيقدم عليه سيحقق ما يريد من نتائج، لكن ذلك يحدث نتيجة للأوهام التي يعتقدها البطل، فتتزين له الجريمة، وسرعان ما تلاحقه لعنة الشر لتقضي على صفو الحياة ونعيمها الذي كان من الممكن أن يحظى به، لكن انعدام التفكير السليم والتهور والسير في خطوط الأوهام، كل ذلك يدفعه إلى النهاية المقدرة سلفا!

في رائعة شكسبير "ماكبث"، يتعرّض البطل المحارب ماكبث إلى خديعة كبرى، تنسج خيوطها ساحرات ماكرات، يتنبأن بأنّه سيصير ملكا على أسكتلندا، لكن عليه التخلص من العقبات التي تحول دون ذلك، وفي مقدمتها قتل الملك، فيقدم على ذلك بدم بارد، ثم يقدمن له 3 نبوءات شيطانية، تكشف حجم الشر الذي من الممكن أن يسيطر على شخص ما، كان في وقت من الأوقات محاربا مغوارا يجوب الأرض.. وفي مشهد الساحرات، تخرج هذه الساحرات من باطن الأرض في مشهد سينمائي مؤثر صاغته الحرفة الشكسبيرية باحترافية لا مثيل لها، وأخذن يرددن تمتمات وعبارات غير مفهومة حتى وقفن على أقدامهن، وأخذن يكيلون التبجيل والتقديس لماكبث! ومن ثم كشفن عن نبوءاتهن الثلاثة التي ستكون السبب في هلاك ماكبث وتحطم أحلامه، بعد قتل الملك وقتل أحد رجال الملك ماكدوف.

وبالحديث عن النبوءات الثلاث، يمكننا أن نقرأ فيها واقع الإنسان في عصرنا الحالي، ومآسي الصراع على السلطة والحروب التي تندلع في كل مكان لتهلك الحرث والنسل..

في النبوءة الأولى، ترفع الساحرات بين أيديهنّ رأس ماكدوف يحرضنه على ضرورة التخلص منه، في رغبة من الساحرات لكي يكون ماكبث دمويا ويقتلن فيه الشعور الإنساني، وقد رأى ماكبث في ذلك فرصة لتحقيق مآرب أخرى تمكنه من تحقيق النبوءات الأخرى للساحرات. وهنا لنا أن نتأمل كم من معارك بين الدول والأشخاص وداخل منظومة الحكم الواحدة، يقتتلون من أجل القضاء على بعضهم البعض، وفي حقيقة الأمر هم يقتلون أنفسهم.. فالحروب التي تندلع بين الفترة والأخرى، هي في الأساس دمار وهلاك لمن بدأ بها، وليست من أجل إعلاء حق أو إزهاق باطل.. ولذلك ينبغي أن نعلم أنّ الحرب لا جدوى منها، وأنّ الدماء لن تتوقف طالما يتعمد البعض الاستمرار في غيّه والإيمان بما يتعرض له من خديعة وأوهام تصور له أنّه على صواب، وهو في الواقع ساقط في براثن التيه والفشل.

النبوءة الثانية: أنّ طفلا لم تلده أمه سيقتل ماكبث، وهنا واحدة من أكبر المفارقات في أعمال شكسبير، فمن ذا الذي لا يهزم أبدا؟!! ففي الواقع تلك خديعة كبرى، فالحياة لا بد من هزائم فيها، كما فيها من مكاسب، وهنا يقع الشخص الضحية لمزيد من الأوهام ويتملكه الغرور.

أما النبوءة الثالثة فتتمثل في إخبار الساحرات بأن غابة بيرنام، وهي إحدى أشهر الغابات في اسكتلندا، ستتحرك إلى قلعة إلزينور مقر حكم ماكبث، وهذه تحديدا تشير إلى وهم الاستحالة، واتخاذ الخداع نهجا لتدمير الشخص لنفسه، فلا يمكن بأي حال من الأحول الاعتقاد بأنّ هناك مستحيلا، فالمستحيل أمر يقبل به الضعفاء فقط، إنّما الأشخاص الناجحون قادرون على تخطي المستحيل، بالشرف والعزيمة والإخلاص.

مشهد الساحرات في "ماكبث" مؤثر للغاية وفيه من العبر ما تكفي لوعظ البشر، والإيمان بأن تدبير المكائد وصناعة الحروب وسفك الدماء لن تخدم الأهداف التي يريدها منفذو هذه الأحداث، بل إنّ الخير والسلام والتعاون، هي القيم الأساسية التي ينبغي للجميع أن يتحلى بها وأن يدرك جيدا أن الحياة بدونها ستكون جحيما.

فالإنسانية الآن أمام اختيارين لا ثالث لهما، إمّا السير في درب التنمية والرخاء والصداقة والتعاون بين الشعوب بعضها البعض، أو إشعال الحروب والفتن وقتل الآخرين بدم بارد، واستباحة المقدسات والأراضي واحتلال الدول، وإقصاء الآخر المخالف في الرأي والتوجه، وغيرها الكثير من الأفعال والجرائم التي ترتكب باسماء عدة وتتخذ أشكالا مختلفة، لكنّها في نهاية المطاف لا تنتج إلا الخراب والفوضى والدمار وحروب التسلح.. فمتى يتعظ الناس من مشهد الساحرات؟ ومتى لا نجد بيننا "ماكبث"؟ الذي لم يكن شريرا، لكن الشر استحوذ عليه فكان "كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران"..