النهضة العربية ومسألة الإخفاق (2ـ2)

عبدالله العليان

من الباحثين العرب مَنْ ناقشوا قضية إخفاق النهضة العربية في جانبها "التداول السلمي"، وما أصاب الأمة من تراجُع كبير على مستويات عديدة، ليس في مجال النهوض المادي فقط، بل في المجال الديمقراطي، حيث بقيت القضايا المهمة في مسارها مُتراجعة سياسيًّا وفكريًّا، وكلها تخرج من الإخفاق في النهوض؛ فالنهضة ليست مجالاً محدداً بالتقدم المادي، بل مرتبطة بالنهوض أو اليقظة، أو الترقي بمحدِّدات مختلفة، بحسب المصطلحات التي أُطلقت على تراجع النهضة في الكتابات العربية، وأهمها: تكريس الاستبداد، وإقصاء الديمقراطية، والحريات عموماً.

وقد ناقشَ بعضُ الباحثين العرب قضية الديمقراطية وتراجعها في المجال العربي في الكتاب المشترك: "لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر العرب" (الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية)، ناقشوا هذه القضية بصورة موسعة؛ لتفسير هذا التراجع في المجال الديمقراطي، الذي كان المؤدي للكثير من المشكلات والتوترات، وكتب الأستاذ عبدالفتاح ماضي عن مداخل الانتقال للديمقراطية، وأشار إلى بعض النظريات التي ناقشت مسألة التطبيق الديمقراطي من حيث الانتخابات، وطريقة وضع رؤى واضحة للتدرج في هذا المجال، ويرى أن "دراسات الانتقال إلى الديمقراطية ظلت تدور حول إجراء الانتخابات الديمقراطية، استنادًا لفهم جوزيف شومبيتر، الذي يرتكز على الإجراءات الديمقراطية الكفيلة بتعزيز المشاركة في السلطة السياسية؛ وذلك حتى موجات الانتقال إلى الديمقراطية التي شهدتها دول جنوب أوروبا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وظهور دراسات لا تقف فقط عند تلك الإجراءات، وإنما تهتم بالأسباب التي أدت للدفع بإجراءات الانفتاح السياسي التي تبنتها بعض الأنظمة السياسية واجتياز الحاجز، أو المسافة الفاصلة (threshold)، بين أنظمة الحكم غير الديمقراطي، وأنظمة الحكم الديمقراطي".

ويناقش الأستاذ علي فهد الزميع قضية الانتقال للديمقراطية في دولة الكويت، وكيف تمت التطبيقات الديمقراطية؛ باعتبار الكويت من الدول الخليجية التي تحركت في خطوات نحو التجربة والممارسة الديمقراطية من ستينيات القرن الماضي، وهي تجربة يشار إليها باعتبارها من النماذج المبكرة في الجزيرة العربية، ويشير الكاتب الزميع إلى أن "التطبيق الديمقراطي هو خلاصة تجارب كغيرها من تجارب الحياة، وكما حال أي تجربة، فإنَّ الديمقراطية واقعة وظاهرة أقل درجة من حقيقة وجودها، لا تقوم على استنتاجات، بل على فلسفة ومناهج وأفعال. إنها ثقافة عصر إنساني بكامله، يمكن أن توجد وتنمو وتتطور، بقدر ما تزخر به روح الديمقراطية من قدرات على تغيير الإنسان والمجتمع".

ويضيف الزميع في فقرة أخرى من دراسته لهذه التجربة، فيقول: "في الحقيقة، تتعلق بمسألة مشروع كويت المستقبل، بل أكثر من ذلك، هي نموذج للتحول الديمقراطي لشقيقاتها من دول الخليج العربية. وقد أسهم في دراسة هذه القضية ككل -أو في إلقاء الضوء على بعض عناصرها وموضوعاتها ومشكلاتها- عددٌ من أفراد النخبة في الكويت، من الأكاديميين والسياسيين والإعلاميين والمثقفين".

ويَطْرح الباحث والكاتب رغيد كاظم الصلح كيفية الانتقال إلى الديمقراطية، بين تجربة سويسرا ولبنان، خاصة مع وجود النظام الحزبي في الدولتين، وكيف تمت هذه الممارسة الديمقراطية وتدرجها منذ بداية ستينيات القرن الماضي، فيرى الأستاذ رغيد الصلح أن هذه التجربة "تبلورت في نهاية الستينيات مدرسة جديدة حملت معها مقاربة مختلفة لشتى قضايا الديمقراطية، ومنها قضية الانتقال من نظم الاستبداد إلى النُّظُم الديمقراطية. وانطلقت هذه المدرسة، التي باتت تعرف بمدرسة الديمقراطية التوافقية، من التمييز بين النظام الديمقراطي الأكثري أو التنافسي المطبق في الدول التي تتوافر فيها درجة عالية من التجانس المجتمعي من جهة؛ والنظام الديمقراطي في دول التعددية المجتمعية من جهة أخرى.

وقد اعتبر الديمقراطيون التوافقيون أن تطبيق نظام الأغلبية على المجتمعات التعددية لن يؤدي -في أكثر الحالات- إلى قيام ديمقراطية الأكثرية، بل إلى قيام نظام دكتاتورية الأكثرية.

أما د. علي خليفة الكواري -أحد منسِّقي مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية- فيرى أنَّ قضية التراجع في مسألة الديمقراطية تتطلب من الجميع، أن تتم مناقشة الأسباب التي واجهت هذا التراجع، لتحديد القضايا التي أسهمت في تأخرنا في المسار الديمقراطي كثيرا عن دول عديدة، من خلال الوسائل السلمية، وأن تتم الحوارات التي من خلالها توضع رؤية مشتركة للانتقال للديمقراطية، لكنه يعتقد "أن أغلب ما قام به المثقفون عندنا يقع في خانة الأدب، يصرخ بالمشكلات ويطرح الديمقراطية كعلاج، دعونا الآن نمارس دور المفكرين مع جميع المعنيين، وأن نفكر ونحلل، ونقدم حلولاً محددة للمشكلات المختلفة. ثم سنحتاج إلى السياسي والناشط لتغيير الواقع، ووضع الأفكار موضع التنفيذ.

لا يزال على الطيف الديمقراطي، عبر التيارات الفكرية من إسلامية ووطنية، أن يتحول من دور الأديب الذي يصرخ من آلام الوضع العربي العام، والوطني في كل قطر، إلى دور المفكر الذي يساعد الناشط والسياسي والمناضل ويشاركهم في توضيح المسار وبيان متطلبات السلوك السلمي.