د. سيف بن ناصر المعمري
نحن أبناء الحاضر الذي تمتد فيه أغصاننا وتورف فيه أوراقنا ولكن جذورنا لا تزال ضاربة في الماضي البعيد الذي يتطلب منِّا أن نعرف أين حدودها، ومساراتها، لأن تلك المعرفة ليست كما يعتقد البعض- أنها بدون معنى ولا أثر- لكنها تساعدنا على أن نقف في الحاضر والمستقبل بعزم وإرادة، فرديا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، سيما في عالم كثر فيه "السطو" على كل شيء بما فيه التاريخ وحقائقه، وآثاره، وإنجازاته، وحكاياته، ولقد كشفت السنوات الماضية ما يدور من "حرب صامتة" لتجريدنا من وعينا بتاريخنا الذي يعد أثمن مورد نملكه، لا يعادله النفط مهما قدَّم لنا من عوائد، فالنفط مورد يتناقص وتتقلب أسعاره، ولن يقدم لنا ما يقدمه لنا تاريخنا من قيمة حضارية واقتصادية.
وإن كنَّا لم ندرك ذلك فذلك ليس ذنب تاريخنا إنما هو ذنبنا لأننا أدرنا ظهورنا لما نملكه لأسباب لا نعرفها حتى الآن، فالتجهيل بالتاريخ لا يزال مستمرا، وآذاننا التي تسمع ما يدور من نقاشات حول ضرورة الاهتمام بموروثنا التاريخي إحداها من طين والأخرى من عجين، وكأن الجعجعة التي نسمع صخبها في السنوات الأخيرة حول تاريخنا لم تكن كافية لتطحن هذا الصمت الذي نحمله، وهذه اللامبالاة التي جعلت من الآخرين يدركون قيمة ما نملك لكنها لم تجعلنا كذلك، فكيف نلوم الآخرين إن كتبوا تاريخنا بحقائق مشوهة، وكيف نعاتبهم إن قزموا منه، وقللوا من شأنه وساووا بينه وبين غيره من التواريخ في المنطقة، كيف نسألهم ونعي أن كل الأسئلة سوف ترد علينا سهاما لا نملك الدروع الصلبة التي يمكن أن تصدها، لأنّ دفاعنا عن تاريخنا وحضارتنا يتطلب قرارات سريعة لكنها لا تأتي بسرعة تلك القرارات التي تتخذها اللجان في رفع الرسوم، وجباية الأموال، وكأن حاضرنا يعوزه المال أكثر من التاريخ، يبدو أننا نقف طويلاً حيارى أمام ما يجب أن نقوم به تحت وطأة سندان الظروف الاقتصادية ومطرقة التحولات المعاصرة من حولنا التي جعلت مدارسنا وجامعاتنا وبعثاتنا وغيرها من مؤسساتنا المعنية تواري غفلتها وتجاهلها لتاريخنا برفع شعارات السوق والتكنولوجيا ومواكبة العصر، وكأننا أمة لا يُمكن أن تتوازن في اهتماماتها فهي لا يمكنها أن تنظر في نفس الوقت إلى اتجاهين، لابد أن نضيع شيئا على حساب شيء، حتى يأتي وقت ونضيع الشيئين معا وعندها لا يمكن أن نصنع ذاكرة قد طمست معظم معالمها، فإلى متى سيظل تاريخنا خارج الأسوار التعليمية للمدارس والجامعات؟
هذا السؤال ليس جديدا بل يطرح منذ العديد من السنوات نظرًا لغياب أية إجابة واضحة، أو تحرك يتناسب مع قيمة السؤال، أو ردة فعل ممنهجة تعبر عن تغير في الإرادات والقناعة، وتعطي مؤشرا على صحوة من الغلفة وإصرار على الخروج من حالة اللامبالاة، دعونا نخرج من حساسية البعض للنقد – رغم أن ما يجري في هذا الملف قصور تتحمله مؤسسات بعينها – ونذهب إلى التفكير معًا في البحث عن آلية تمنح لتاريخنا الحق في القفز فوق أسوار المؤسسات التعليمية، بحيث يعلم لمختلف طلبتنا بما يتناسب مع أعمارهم ومراحلهم الدراسية، بأكثر من مقرر ومسمى يمكن أن تتسع لفصول الحضارة العمانية بامتدادات الجغرافية المختلفة، وبصورها وإنجازاتها وإشكاليات المجتمع وكيف كان فاعلا في صناعة واقعه وتغييره، وكيف كان كائنا مفكرا ونشطا في مجتمعه ثقافيا وسياسيا، نحدثهم عن مغامراته وجرأته وقوته في مواجهة الأخطار والغزاة، نحدثهم عن حالة الركود والانقسام والضريبة الكبيرة التي دفعها العمانيون لها، نحدثهم عن العلم والعلماء والبحث، والصحف والقلاع والحصون والزراعة والصيد، والهندسة المتفردة، وغيرها من المعالم التي تمثل ذاكرة الإرادة والإنتاج التي حملها تاريخنا كما وصل إلينا، ألا يستحق كل ذلك أن نقدمه نحن لطلبتنا وهم لا يزالون على مقاعد الدراسة، بدلاً من أن يقرأوا حقائق مشوهة ومنقوصة يقدمها الآخرون في مناهجهم المختلفة والتي قد لا نستطيع أن نجبرهم على تغييرها، ولكن نستطيع أن نجبر أنفسنا على أن نغير مواقفنا من تاريخنا، ونطلب من مؤسساتنا أن تغير سياساتها لتواكب الأهداف الحقيقة للتعليم، فتعليم يقصي الذاكرة تعليم يلحق أضرارا كبيرة بالفرد والمجتمع والدولة، والأضرار التي تلحق بالذاكرة تعمل على إسقاط الفوائد الكثيرة التي تحملها الذاكرة القوية تاريخياً التي تدرك مكانها ومكانتها وتعي نوعية طموحاتها فلا تولد الطموحات صغيرة متواضعة يقف أمامها المنجز التاريخي عملاقا مما يرمي الفرد في غيابة جب من الإحباط لأنه يشعر عندها أنه ليس خير خلف لخير سلف، رغم أنه يتكئ في إبراز هويته وتفرده ليس على حاضره فقط إنما على الماضي ومنجزاته.
إن جعل تاريخنا داخل الأسوار الحقيقة ليس سجناً له إنما هو بث للحياة فيه، وبث للفخر الذي يحمله في أوردة لا تزال تتلمس طريقها في عالم متداخل لم يشهد انفتاحا وضجيجا مثل اليوم، إن الاستثمار التاريخي يبدأ بزرعه في العقول، ومن ثم في الحقول، ومن ثم في الاقتصاد، حين يحيا التاريخ داخل أسوار من الاهتمام والنقاش والاحتكاك اليومي يصبح جزءا من الذاكرة اليومية، ويتحرك الفضول حوله، وتكثر النقاشات حوله، ويصبح مرآة موجودة في كل مكان يرى فيها كل من ينظر إليها ما يدفعه إلى أن يعمل ليكمل المسيرة نحو مزيد من التميز والتفرد، فهل سوف نشهد هذا العام تحركا على أي مستوى حول تاريخنا، أم سيكون عاما يضاعف من عدد أعوام الصمت؟