إبراهيم الهادي
بدأتْ لحظاتها وهي تُشاهد ضوءَ القمر وتُسَامر ذكرياتها الجميلة، فأصاب الغَمض جفنيْها في إغفاءةٍ لم تكُن تعلمُ مَدَاها لتدخل في مشهدِ سقوط القمر على حجرها، كان حُلما غريبًا بالنسبة لها، لكنه كان تمهيدا لقيامها بعمل جليل في لحظات مخاض أم الرسول الذي بُعِث للأمة ناصحًا وأمينًا، ليُولد على حجرها المبعوث الأمين، ويصبح حُلمها واقعًا ومشرفا لها.. إنَّها الشفاء بنت عُوف، التي أطلق اسمها على الكثير من المعالم الحديثة، بما فيها مدرسة الشفاء بنت عوف بمنطقة الحاجر بولاية العامرات.. التاريخ هنا تَتَتابع أحداثه في أزمنة متفاوتة؛ ففي الحاجر نفسها سجَّل التاريخ على صفحات ترابها أروع البطولات، ولعل أبرزها عندما أراد الحجاج بن يوسف الثقفي وَضْع عُمان ضمن أولويات خططه بهدف إخضاعها للسيطرة الأموية بالقوة والعنف، وأول حملة عسكرية مُدجَّجة بالأسلحة، ومُعززة بالسفن والخيول بعث بها الحجاج إلى عُمان كانت بقيادة القاسم بن شعوة المزني، وقد رست الحملة في وادي حطاط الذي يتبع منطقة الحاجر بولاية العامرات، إلا أنَّ العُمانيين في تلك المنطقة قاوموا مقاومة باسلة؛ مما أدى لاندحار الحملة، وقتل قائدها، فكانت هزيمة ساحقة للدولة الأموية في التاريخ، سجلت فيها الحاجر -التي كانت تحمل اسم الولاية- أروع البطولات التاريخية. وبعض المصادر تشير إلى أنَّ الحرب اشتدَّ وطيسها، ووصلت وادي الميح، ليفر من يفر من جنود الحجاج إلى أحضان البحر، وهذا يجعلنا نقف أيضا مع قرية وادي الميح ذات التاريخ العريق؛ فهي من المناطق الشامخة بنخيلها ومعالمها وتفاصيلها الجميلة.
وبعيدًا عن التاريخ القديم، وعلى الأرض نفسها، نقف اليوم مع الأحداث الأخيرة التي بدأت تعصفُ بأذهان مئات الأطفال -طلاباً وطالبات- من قُرى الحاجر بولاية العامرات؛ حيث اختلطت فيها المشاعر وهم يعودون إلى الدارسة التي اعتادوا عليها، وحفظوا أروقتها ومسارات صفوفها، وهي التي بُنيت من أجلهم.. أحداثٌ تسبَّبت فيها وزارة التربية والتعليم في قرار-كما يراه الكثير- غير مُوفَّق، في ظل ما تبذله من جهود جبارة لنشر التعليم في السلطنة، وهي بلا شك قد سطرت بذلك إنجازات عظيمة، إلا أن التعامل مع خصوصية هذا الموضوع أخذ مسارا آخر وهو ما جاء إثر مقترح انفرادي رفعه أحدهم للمسؤولين، واعتمدوه دون دراسة للأبعاد الاجتماعية والنفسية، ودون مشاورة للأهالي المستهدفين! فكان تنفيذُ المقترح فرصةً لمواراة سَوْءة التخطيط الذي بنيت على أثره مدرسة قرية وادي الميح التي تحدها ولاية مسقط من الشرق، لكنها تفتقد لأعداد كافية من الطلاب؛ نظرا لنزوح مُعظم سكانها بسبب الطريق الترابي الوعر الذي تسلكه الشاحنات الثقيلة ليلَ نهار. الأهالي بدورهم أوضحوا خوفهم على فلذات أكبادهم من خطورة الطريق الذي تتوسَّطه عقبة شاهقة، وهو طريق تُرابي، يشق مساره وسط أودية هائجة عند نزولها لا تبقي ولا تذر؛ فرفعوا اعتراضَهم ومُبرِّراتهم بالطرق القانونية، والغريب أنَّ الوزارة أصرت على موقفها، رَغم أنَّ الطريق يفتقد لوسائل الأمان، علاوة على المسافة البعيدة التي تفصل المدرسة عن القرى المستهدفة. إدارة الوزارة للموضوع أثارتْ الكثير من التساؤلات حول الإمكانيات الإدارية بها، والحكمة الغائبة في الموضوع؛ فكان لجُوؤها لمخاطبة الجهات الأمنية يدل على فقدان مهارة استخدام أدوات الحلول العقلانية الكثيرة المتاحة، وهو ما عزَّزته الأدلة في مَشِاهد أطفال في عمر الزهور مطرودين من مدرستهم إلى خارج أسوار المدرسة، وتركهم تحت أشعة الشمس الحارقة دون إحساس بمشاعرهم وإرهاقهم. أمرٌ أثارَ استغرابًا، وصاحبته موجة من الغضب الشديد، وهو تصرف يدلُّ على أنَّ الموضوع يدار بقرارات ارتجالية غير حكيمة؛ مما جعل الأهالي يفسِّرونه بأنه استفزاز غير مسبوق، وهو ما يتعارض مع نهج الحكومة الراقي لا سيما الأطفال الأبرياء! رغم رفع الأهالي مقترحات مناسبة تكمُن في توزيع جغرافي يستوعب جميع القرى لمدرسة حديثة قريبة.
هذا الموضوع يحتاج وقفة صارمة، وتمحيصا جيدا من جهات مُراقبة عُليا، مع تقييم إمكانيات الإدارة الحالية في كَوْن هذه المؤسسة تمسُّ جميعَ شرائع الأجيال التي تُصقل بالعلم ويُعول عليها في بناء الدولة. وأخيرا.. فإنَّ هذا المشكلة تأتي امتدادًا لمشكلة سابقة تمثَّلت في قرارٍ بهدم مدرسة سعيد بن ناصر الكندي في الحاجر؛ نتيجة تقرير فني غير موفق، وأبدت فيه الوزارة إصرارها على هدمها، رغم اعتراض الأهالي، وهي تعدُّ من أوائل المدارس في محافظة مسقط؛ فهدمت المدرسة بمعاول الهدم، ليخيم معها الحزن على آخر ما تبقى من ذكريات لمعاول العلم.
ibrahim@alroya.net