الترشيد في الحرية

 

د. سيف المعمري

يبدو أننا قوم "مسرفون" في شؤون حياتنا؛ لذا يرى بعضنا أن عِلتنا وأزماتنا هي في طبيعة الإسراف التي نتعامَل بها مع مواردنا وثرواتنا؛ فنأخذ منها أكثر ممَّا نستحق، ويُنفق علينا منها أكثر مما نَستحق، ويرى آخرون أنَّ عِلتنا هي "إسرافنا" في الراحة على حساب العمل، وفي الاسترخاء على حساب النشاط، وفي "الثرثرة" أكثر من التركيز على ما يجب فعله، بينما يرى آخرون مُشكلتنا هي "إسرافنا" في الاجتماع أكثر من اللازم، فيقضِي الناس معظم وقتهم في أداء التزاماتهم الاجتماعية، ويتنازلون عن الخسائر من ذلك رغبة في "الأرباح" الاجتماعية التي يجنونها من ذلك، ويرى فريق رابع أن مشكلتنا هي "الإسراف" في حب الوطن دون أن يجني الوطن من ذلك الحب أي تغيير؛ فالقضايا التي كانت تسيطر على أذهان الناس قبل عشر سنوات هي التي تسيطر عليهم اليوم؛ مما يعني أنَّ الجهود التي قدمت من أجل التغلب عليها والحد منها لم تأتِ بالنتيجة المتوقعة. ويرى خامس -وهذا تيار يتزايد- أن مشكلتنا هي "الإسراف" في الحرية؛ حيث يُعيق هذا الإسراف حركة الذين يعملون في "الورشة" الحكومية الدائمة من أجل تنفيذ الخطط التي وضعوها؛ حيث تشغلهم هذه الانتقادات التي تأتي من هؤلاء الذين أُطلق عليهم "السلبيون" عن أداء عملهم، وتؤثر في نفسياتهم التي تشعر بألم لما يقال عنهم؛ وبالتالي فإن البعض يفترض -ولا أعرف على أي أساس منطقي يستند- أن ما نحتاجه لكي يتحقق التحول الذي ينشده الجميع في التنمية هو "الترشيد" في فرص ممارسة الحرية.

لقد أثارت حادثة الخلاف الذي دار الأسبوع الماضي، بين أحد الطلاب المبتعثين وإحدى الوزارات الحكومية؛ حيث مارس حريته في التعبير عن الرأي في قضية من القضايا التي تعني المؤسسات التي تنتمي لهذه الوزارة، إلا أن هذا الرأي جُوبه بردة فعل أزعجت الفاعلين في شبكات التواصل، ودار نقاش مطوَّل حول الموقف بين مؤيد للطالب، وآخر للوزارة، التي رأى أنها لابد أن تدافع عن نفسها، وأنه طالما لم يصغ هذا الطالب رأيه بطريقة جيدة، لابد أن يُرَد عليه بنفس الأسلوب حتى يكون عِبرة للآخرين، ولم يمضِ الأسبوع نفسه حتى ظهرت قضية أخرى مرتبطة ببرنامج إذاعي دار جدل حول بعض المضامين التي استُخدمت فيه، مما قاد إلى جدل كبير حول مصطلح "الوطنية"، ونتج عن هذا الجدل انقسام كبير استُخدمت فيه كلمات ذات مدلولات سلبية جدا، ذات طبيعة إقصائية، وظهر أن الحرية التي دفعت هؤلاء الشباب والفاعلين إلى التعبير عن رأيهم كحق من حقوق المواطنة لابد أن يتم "الترشيد" فيها؛ لأن هذا ليس وقتها؛ حيث يمر المجتمع والبلد بتحديات كبيرة يُمكن أن تُستثمر من قبل جهات خارجية لها أغراضها ومآربها في الإضرار بالبلد، لنضحِّي بكثير من الحرية من أجل أن نمضي إلى الأمام، لنضحي بالرأي الذي يوجد حراكا فكريا ومعرفيا من أجل تحقيق بعض التقدم.

لا شكَّ أن الترشيد في الحرية يُشبه الترشيد في الاقتصاد إلى حدٍّ كبير؛ فالحرية المراد الترشيد فيها هي حرية متعلقة بالمواطن وقضاياه؛ فهو المتأثر بالمواضيع والإشكاليات التي ينتقدها، ويشعر بقلق منها لأنها تؤثر على مستقبله وأطفاله؛ لذا يرغب دائما في إبراز جوانب القصور من أجل معالجتها؛ سواء تعلقت بالتعليم أو الصحة أو التوظيف أو الترقيات، والترشيد الاقتصادي أيضا مرتبط بالمواطن والجوانب المتعلقة فيه، فلا ترشيد في الجوانب التي لا تتعلق بالمواطن، وكأن المواطن في كلا الحالتين هو "المسرف" الأكبر سواء في الحديث والانتقاد والتشكي، أو في صرف الثروات الوطنية؛ وبالتالي كيف نُوْجِد مواطنا قويا يعاني من ترشيد في رأيه وترشيد فيما يُوجَّه إليه من أموال على شكل رواتب أو ترقيات أو إعفاءات أو تخفيض في الرسوم؟ وكيف يقوى بلد بهذا المواطن الذي يجرد من مصادر القوة التي تتيح له الوقوف بثبات وقوة في هذا الزمن الصعب الذي تتزايد فيه الضغوطات عليه، ويطلب منه رغم ذلك أن لا يضغط على أحد حتى لو كان هو الهدف الرئيسي للتنمية، وللحكومة ووزارتها؟ إنها الأسئلة التي إن لم نفكر في دلالاتها اليوم قبل الغد سوف تتفاقم لنا تبعاتها التي ستكون لها ضريبة كبيرة على الجميع.