عائض الأحمد
في زمنٍ تتصدر فيه الفردانية المشهد، ويُروَّج للتفرد كعلامة على التميّز والعبقرية، يسهل الوقوع في وهم الذات المتضخمة. يرفع البعض راية "الحرية" و"الاختلاف" دون وعيٍ حقيقي بما تعنيه، ودون إدراك أن التفرد بلا جذور يتحوّل إلى تيه، وأن التحرر بلا وعي يُفضي إلى عزلةٍ باردة.
يظنّ أنه محور الأحداث، ومهوى الأنظار، يحيّي الجموع في صحراء قاحلة لا ماء ولا حياة فيها، يتخيّل الصفوف تنشقّ لاستقباله، والأضواء تُسلّط عليه، والرؤوس تدور إعجابًا. بينما هو، في الحقيقة، مجرد عابرٍ في مشهدٍ لم يُكتَب له أن يكون فيه بطلًا.
لقد خدعته فكرته عن نفسه. ظنّ أن التفرد بطولة، وأن كسر التقاليد بطولة أعظم. ارتدى الغرابة، وتبنّى أفكارًا لا يفهمها، فقط ليبدو حرًّا. نادى بالتحرر من كل قيد: من الدين، ومن العائلة، ومن الهوية، ومن الحب، ومن الالتزام... لكنه لم يُدرك أن التحرر دون بوصلة ليس حرية، بل ضياعٌ مقنّع.
كان يبحث عن ذاته، ففقدها. اختار أن يصطدم، لا أن يفهم. تبنّى الشذوذ عن السائد كمعيارٍ للقيمة، لا عن إيمان، بل عن رغبةٍ في إثبات ذاته عبر النفي لا البناء.
الحرية الحقيقية لا تحتاج إلى استعراض، إنها هادئة، عميقة، تعرف متى تُعلن، ومتى تصمت. أما غواية التفرد لأجل التفرد، فلا تقود إلا إلى عزلةٍ صاخبة، ضجيجها أكثر من معناها، لا حكمة فيها، بل سخرية من حولها.
وهكذا... لا يعود السؤال: "من أنا؟" بل: "لمَ كنتُ كذلك؟"
إن أعظم الحريات ليست تلك التي تُغضب الجميع، بل التي تُرضي ضميرك أولًا. ليس التفرد قطيعة، ولا الاختلاف مخالفة، بل هو أن تكون كما أنت، بلا ادّعاء ولا قناع، بعيدًا عن مجازفات ساحقة تخلعك عن أفكارك، تُغذّيها سطوة إعلامية مبتذلة، لا تزيد عن كونها مشاهد درامية، تُروى لأجل الفرجة، لا الفهم.
حينما تملك خيارك، فإن التمرّد عليه يدنيك إلى منازل السفه، ويسلبك حق "الأنا"، وتظهر آثاره مستفزّة بلونها القاتم وردائها المتسخ.
لها: الشروع في حبك شَرعٌ قائم، وإن كنتُ متّهَما، فسأمضي في قضيتي.
شيء من ذاته: راقب نفسك، قيّم اختياراتك، وامضِ بطريقتك دون ضجيج. فإن لم تجد من يتلقاك، فالمكان ليس لك وحدك... ولا أحد ينجو من التمرّد إذا فقد وجهته. نقد: الوقت ينفد، سِمَة الحياة ومعيارها، فلِمَ الغضب؟