السلطان الإنسان.. فيوضات 23 يوليو المجيد

 

حمود بن علي الطوقي

 

من العام 1976، عندما قررت إدارة مدرسة المتنبي بولاية إبراء الاحتفال والاحتفاء بعيد النهضة 23 يوليو المجيد وقتها كانت المناسبة الوطنية تُعرف بعيد الجلوس، أذكر جيدًا هذا اليوم ونحن صغارا نحمل صور جلالة السلطان ونغني الأناشيد الوطنية في الساحة المدرسية؛ حيث كانت ولايتي إبراء كبقية الولايات العُمانية تحتفل بهذه المناسبة الغالية.

كانت الاحتفالات مسكونة بالبساطة والعفوية كل شيء في الاحتفال كان عاديًا، فقط كنّا نعلم أننا نحتفل بعيد الجلوس حيث تقلد جلالة السلطان مقاليد الحكم وكل الجغرافيات كانت بسيطة والحياة لم تخرج من كونها تقليدية بامتياز، لم تكن هناك عوامل تحضُّر كما هي الآن، ولم أشهد شيئاً مختلفًا، يومها كانت الحياة تبدو كأنها تسابق الزمن أخذنا كطلبة صغار مواقعنا في الاحتفال، كانت صور جلالة السلطان هي السمة المُشتركة ليس فقط في ساحة الاحتفال بل في كل بيت وفي المدرسة حتى إنني أذكر أنَّ المرايا التي تعلق في مجالس بيوتنا كانت تحمل صورة جلالة السلطان، فنحن في سن صغيرة، ليس لدينا سوى اختزان الفرح في الذاكرة، وانتظار الوقت كي تفوح رائحة ذلك الفرح، مرت السنوات، وكنا كطلاب نختزن الفرح عندما يعلن تاريخ 23 يوليو و18 نوفمبر كنَّا نحتفل بهاتين المناسبتين من أعماق قلوبنا كنا نرفع أعلام السلطنة وصور جلالة السلطان ونغني جماعة وفرادى نشيد "صوت للنهضة نادى". ونردد أغاني سميرة توفيق وفهد بلان ونجاح سلام والصفراوي وغيرها من الأغاني الوطنية التي كان صداها يتردد في كل بيت.

تلك المناسبات ظلت مسكونة في ذاكرة طفولتنا ظلت تلازمنا، ومازلت محتفظًا بها حتى هذه اللحظة، وقطعاً لن تُفارقني، فرؤية محبة الشعب لهذا الرمز العماني الذي على يديه الكريمتين سيتم صنع عُمان جديدة ومختلفة لم تكن تتجاوز فرحًا طفوليًا آنذاك، ولكن عندما أراها الآن في ذاكرتي، أجد أن القدر رتب لي هذه الرؤية كي تصير التفاصيل ذات ملامح توثيقية وتاريخية.

مر الزمن سريعًا، وحصلت التحولات وشاهدت كيف أن المكان الذي استحوذ عليه السبات يقوم من سباته، ينفض عن كاهله تعب السنين، يُعيد ترتيب أولوياته، يسير في ركب حضاري مختلف، كل ذلك شاهدته وأنا طالب انتقل من مرحلة إلى مرحلة.

القدر ساقني نحو بلاط صاحبة الجلالة "الصحافة" منذ نعومة أظافري، وهذا ما جعلني على مقربة من تفاصيل كثيرة، أعلم- من خلالها- كيف حصلت تلك التحولات، وكيف انتظمت السلطنة مكانا وشعبا في تسجيل حضورها وتمكنها، وتأكيد استحقاقاتها السياسية والعالمية، وتكييف أوضاعها لتكون ذات شخصية مستقلة، وتنوير الشعب بما يتسق مع طبيعة المرحلة، من دون نكوص عنها أو قفز عليها، بحيث آمنا أن لهذا الحلم معنى، وأن السلطنة لا تخطو خطوة من غير حساب مسبق لها.

ربما هذا القرب من الكيفية التي تم بها إنشاء السلطنة الحديثة، في عهد المقام السامي لجلالة السلطان المعظم- حفظه الله- جعلني أرقب المشهد بعين صحفية، بالطريقة التي تزن مقادير الجهد والبذل والعطاء، بالأسلوب الذي يقرأ التحولات بطريقة مختلفة عن عموم الناس بالصيغة التي يمكنها أن يقول المعنى الذي صارت إليه السلطنة في ظل ذاكرة شخصية رأت الحال كيف كان وكيف آل إلى ما آل إليه من تطورات.

لقد تحققت أمور كثيرة ولا شك، وحظيت السلطنة بكثير من أشكال الاعترافات الدولية في مجالات مختلفة وانبرت الأقلام ترصد وتحلل وتكتب وتوثق وتدون وتسترجع، وتسابقت الكثير من الدول تحاول قراءة المستوى الذي تحولت فيه السلطنة من خلاء ضخم إلى عمران جم، مما جعلها نموذجًا في التحول النوعي سابق الزمن في ظل ظروف مختلفة في الداخل والخارج كوننا جزءا من العالم غير منفصلين عنه نتأثر بمناخاته السلبية والإيجابية على السواء.

بالرصد الدقيق، لقد تحمل جلالة السلطان قابوس- حفظه الله ورعاه- مسؤولية إرث ضخم كان لابد من التعاطي معه وتسويته لأن القفز عليه لم يكن مأمونا وكان الذكاء السياسي في تدبير شؤون الحكم هو ما أوصل السلطنة إلى بر أمن وأمان وسلام متآلفة أطيافها وطوائفها بتناغم قلَّ نظيره وهذا كله صب في صالح الاستقرار العام للسلطنة.

بفضل جلالته- حفظه الله- وبحكمته وصبره وبعد نظره باختياره مسيرا مغايرا لما عليه الكثيرون، تحولت السلطنة إلى دولة عصرية صارت محج الشعوب والأقوام والثقافات، صارت مضرب مثل في العديد من المكتسبات، صارت مرجعًا لكثير من طالبي الخبرة في بعض المجالات، أي أنَّ السلطنة غدت كيانا مختلفا تماما عمَّا كانت عليه في السابق.

يمكن القول إنَّ السلطنة صارت بفضل جلالته رقماً صعباً في السياسة العالمية وتعاملت مع العديد من الملفات الدولية الشائكة، وعملت بسياسة السلم لا الحرب في تدخلاتها التفاوضية، وسلكت مسلك رأب الصدع لا شق الصف، ونالت بفضل ذلك احترام القيادات العالمية والشعوب، على حد سواء، وهذا واحد من أعظم المكاسب التي ستظل خالدة في تاريخ السلطنة.

كل هذا بعض من فيوضات الـ23 من يوليو المجيد..

حفظ الله جلالة السلطان الأب الحنون والمعلم الذي خطَّ بقلمه ورسم خارطة طريق لعُمان وأصبح الطريق آمنا مشرقا بفضل حكمته وحنكته التي لا يختلف عليها أحد.

حفظ الله جلالة السلطان القائد الإنسان.