مقومات نجاح الحوار الوطني وعوامل إخفاق (3-3)

 

 

عبيدلي العبيدلي

وتقفُ في الجهة المقابلة قائمة عوامل الإخفاق أو الفشل، والتي يمكن رصد الأكثر أهمية منها في النقاط التالية:

3- جَنينيَّة مستوى النضج السياسي الضروري؛ فعلى الرغم من غنى التجربة السياسية العربية المعاصرة، التي تعود جذورها الحديثة إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، خاصة في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، لكن يمكن القول إن هذه الحركة، وحتى يومنا هذا، لم ترق بعد للمستويات التي تحقق إنجاز مهمات إنجاح حوار وطني. ولعلَّ أبرز مظاهر النقص التي تعاني الحركة السياسية العربية هو فشل، نسبة عالية، إن لم يكن جميع، مشروعات الحوار الوطني خلال سنوات الربع القرن الماضي في الخروج بنتائج إيجابية تمخضت عنها لقاءات الحوارات الوطنية. والأمر لا يقتصر على البلدان التي تطورت الصراعات بين فصائلها السياسية المتنازعة على السلطة، بل شملت أيضا حتى تلك التي كانت الصراعات فيها لا تتجاوز حدود بعض المطالب السياسية غير المتفق عليها من قبل القوى المختلفة.

4- ضَعْف هيكلية بنية الثقافة السياسية العربية، كي لا نبالغ بعض الشيء، نقول الحضارية، التي لا تزال أسيرة القيم القبلية. ولم تستطع القوى السياسية في معظمها تجاوز الذهنية القبلية أو الطائفية التي تنغرس فيها القيم الأنانية، البعيدة كل البعد عن العمل السياسي المشترك، أو الذي تسيره آليات التعاون والتكامل بين الأطراف السياسية المختلفة. فسيطرة السلوك السياسي الذي يرضع من ثدي الفهم القبلي لحل الصراعات المجتمعية، لا يمكنه أن يفهم، دع عنك أن يقبل بآليات قيم الأرباح المشتركة المتبادلة (Win-Win)؛ حيث تتغلب نزعة الأنا على مفاهيم الـ"نحن". وعملية الانتقال من الأولى إلى الثانية يتطلب تحولات بنيوية ثقافية، لم تمر بها نسبة عالية من مكونات العمل السياسي العربية، حتى المعاصرة منها. هذه الحالة تنعكس بدورها سلبيا على مسارات مشروعات الحوار الوطني، وتمارس دورا تخريبيا يفسر فشل لقاءات "الحوارات الوطني" العربية.

5- الضَّعْف السياسي الذي تعاني منه معظم، إن لم يكن جميع، برامج التعليم العربية، والتي تجاوزها التاريخ المعاصر. فعلى مقاعد الدراسة، لم يعد المطلوب تلقين التلاميذ أكبر كمية من المعلومات التي تختزنها صفحات الكتب المدرسة، بقدر ما بات ملحا تقل التلميذ من حالة الآلة الصماء المتلقية للعلم، إلى إنسان متحضر، يكتسب، بعد المهارات العلمية، براعة التفاعل مع الآخرين، والتجاوب مع أفكارهم، بما يضع أسس وقيم التعايش التفاعلي المشترك، الذي يؤسس لتطوير الأجيال المهيأة لأي حوار وطني مستقبلي يواجهها في حياتها السياسية.

وبعد أن سردنا مقومات النجاح، ورصدنا أبرز أسباب فشل الحوارات الوطنية العربية، التي اكتظت بها فضاءات العمل السياسي العربي، لم يعد هناك من مجال لتحاشي ترك أبواب النهايات مشرعة على مصراعيها، دون تقديم بعض التصورات، في هيئة رؤوس أقلام مقتضبة، يمكن أن تتحول، متى ما اقتنعت بجدواها قوى سياسية معينة، إلى برامج عمل، ومنصات حوارات وطنية جادة، ومسؤولة، ومثمرة، ترتكز على القوائم الصلبة، الراسخة التالية:

أ- عملية إصلاح قيصرية سريعة، مهما كانت درجة آلامها الآنية المبرحة، لكنها ذات آفاق بعيدة المدى، قادرة على أن تحقق التحول الإيجابي المطلوب، لبرامج التعليم العربية، بعد أن تستفيد من نظيراتها المطبقة في بلدان أخرى، نجحت، من خلال تلك البرامج المتطورة، في تخريج أجيال مهيئة علميا، وسلوكيا، وقيميا، للقبول بمداخل "الحوار الوطني"، وسيلة متحضرة لوقف النزاعات الوطنية وتطويقها في مراحل مبكرة من حياتها، لضمان محاصرتها، بأشكال حضارية متقدمة، من خلال الجلوس إلى طاولات حوارات وطنية تتوفر فيها مقومات النجاح، بعد أن تكون قد تخلصت من أية مفاهيم أخرى غير قادرة على وضع حد لصراعاتها بشكل سلمي متحضر، ومعاصر في آن. عملية الإصلاح هذه لا تعالج المواد العلمية فحسب، وإنما، وبشكل أساسي تلك المتخصصة في العلوم الإنسانية، بدوائرها الفلسفية.

ب- الانتقال السلس المتحضر نحو المجتمع المدني، عبر قنوات كفؤة وسبل معاصرة، للوصول إلى أرقى مستويات المجتمعات المدنية، التي تسير قراراتها ذهنية بعيدة عن الإرث الطائفي الذي يثقل كاهل برامج الحوارات الوطنية. يرافق هذا الانتقال، موضوعيا، بناء قواعد راسخة تساعد على تأسيس، منظمات المجتمع المدني التي تأخذ على عاتقها مهمة وضع صمامات الأمان القادرة على إنجاح مساعي عقد لقاءات الحوارات الوطنية. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عملية الانتقال هذه ليست تلقائية ولا بسيطة، فهي بحاجة إلى خطط مدروسة، وبرامج مبدعة من جانب، وإلى جهود مكثفة ومستمرة من جانب آخر، إن كان أريد لها أن تمارس دورها المطلوب في نقل التحولات المجتمعية من مسارها الصدامي، وربما الدموي البربري، إلى طرقها السلمية المتخضرة.

ج- زرع ذهنية القبول بالآخر المشوبة بسلوك أصيل يغادر مواقع رفض الآخر، واستحالة التعايش معه. هذه الخطوة المزدوجة الأبعاد، السلبية الهادمة من طرف، والإيجابية المشيدة من طرف آخر، تتطلب رعاية وتشجيع التفكير الديناميكي المتعدد الأبعاد، المتملك لمهارات، وأصول، فنون إدارة الصراعات المجتمعية، بما فيها ذات الجذور السياسية، بطرق سلمية. ومن ثم فهي لا تتقن تسيير قوى المجتمع المتصارعة في المسارات السلمية فحسب، بل تتمتع أيضا بقدرات توجيه تلك القوى بعيدا عن أية انحيازات مغايرة تأخذ بيدها نحو مناهج أخرى.

د- تأهيل القيادات المجتمعية، خاصة تلك المنخرطة في العمل السياسي، وعلى وجه التحديد الكوادر القيادية فيها، كي تتشبع بروح القبول الطوعي والمقتنع بالقبول للآخر، والرغبة الصادقة في التعايش معه من جانب، ونبذ العقلية الانتهازية المخاتلة التي لا تأخذ بمثل هذا الخيار إلا عندما تكون موازين القوى في المجتمع مائلة لغير صالحها، لكنها، وبشكل تلقائي تتحين اللحظة التي تختل تلك الموازين وتميل كفتها نحوها، كي لا تتردد في نبذ خيارات حل الخلافات بالطرق السلمية، وعلى طاولة الحوارات الوطنية، والمسارعة للأخذ بتلك المناقضة لها القائمة على العنف المدمر، الذي حتى عندما تنجح هي في حسم الصراع لصالحها، تجد نفسها وقد تبوأت سدة السيطرة على مجتمع، تنهش جسده الأحقاد الكامنة التي تزود مكونات المجتمع النشطة بذهنية حسم الصراعات المجتمعية لصالحها، وعبر الطرق العنيفة، وبعيدة كل البعد عن أروقة قصور الحوارات الوطنية، بما تحتاجه من شحن يعزز تلك الذهنية وينشط خلايا أدمعتها.