علماء تحت المجهر (4)

ناصر العبري      

تَزْخر السلطنة بالعديد من الشواهد التاريخية والثقافية، فضلًا عن العلماء الذين ضحُّوا بحياتهم في سبيل تعليم الأجيال أمورَ دينهم، وسيرة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- خدمةً للوطن وأبنائه. وفي السطور التالية نحاول التعريف بهم لأبنائنا؛ من خلال سرد سيرة هؤلاء الرجال، والعالِم في مقالنا هذا هو الشيخ الفقيه القدوة عبدالله بن سالم بن عبيد بن سيف بن سليمان اللزامي.

وبحسب بحثنا على شبكة الإنترنت والمصادر الأخرى؛ فقد وُلد الشيخ الراحل -رحمه الله- في شهر محرم عام 1344هـ الموافق 1925م في بلدة المزارع، وهي إحدى بلدان قريات بمحافظة مسقط، وبها وادي جارٍ على مدار السنة يُسمَّى وادي ضيقة والمزارع بلدة مطلة على سلسلة جبال الحجر الشرقي، نشأ الشيخ في ظل أبوين صالحين مستقيمين؛ فوالده يعدُّ من أهل الصلاح والتقوى، وكان مُحبًّا للدين وأهله، وكان من أولئك الذين يقيمون حلقات العلم في محلة الحصن بالمزارع توفي -رحمه الله- قبل وفاة الإمام الخليلي بسنة؛ حيث إنَّه تُوفي في سنة 1372 هـ الموافق 1953م -رحمه الله تعالى- أمَّا عن والدته، فهي البرة النقية الصالحة سليمة بنت حميد بن حامد الرواحية، وكانت حافظة للقرآن الكريم، وكان الشيخ يراجع لها حفظها، ومن بر الشيخ بأمه أنه لما مَرضت ترك الاعتكاف بالحرم حتى يهتم بها ويقوم بشؤونها واحتياجاتها. سافر الشيخ إلى حاضرة العلم والعلماء ومهد الأئمة الفضلاء نزوى، ومكث بها مدة من الزمن، وفي سنة 1372هـ الموافق 1953م، سافر الشيخ إلى البحرين لأجل الرزق، حاله كحال كثير من العمانيين، وعاد من البحرين سنة 1375هـ الموافق 1956م، واشتغل بعد رجوعه بمهنة التدريس في قرية المزارع، وبعدها طلبه الشيخ علي بن سالم الحميدي ليدرس في قرية الهبوبية، فسكن فيها مدة ثلاث سنوات هو وعائلته.

تحلَّى الشيخ ببعض الصفات التي جعلتْ منه محلَّ تقدير واحترام؛ فهو دائم الابتسامة، لين، كريم، مُحب للصلاح، دائم التقرب إلى الله، منكسر النفس خشية لله تعالى، وقد أثنى عليه سماحة الشيخ العلاّمة أحمد بن حمد الخليلي -حفظه الله- بقوله: "وكنا نرى فيه الصلاح والبر والتقوى، وكانت رؤيتنا له تذكرنا بالآخرة"، وكان رحمه الله صاحب همة عالية وكثير التقرب إلى الله تعالى بصنوف العبادات، مواظباً على النوافل، كثير الصيام والاعتكاف، دائم السفر لأداء العمرة في شهر رمضان، ومن مظاهر حرص الشيخ اللزامي للعبادة أنه أراد أن يصطحب أحد أقرانه في سفر قبل الفجر، فأراد صاحبه أن يعرف كيف انتظاره فذهب في منتصف الليل، فوجده قائما يصلي، والشيخ كثير الخشية من الله تعالى، وعُرف عنه أنه يأخذ بأحوط الأقوال، فعنده عدم التعصب للأقوال التي حفظها من قبل وليت أهل هذا الزمان يتركون التعصب لأقوال دون النظر إلى الدليل وحجية عُلماء العصر المحققين، ومن ذلك كان الشيخ يقرأ سورة المنجيات ليلة الجمعة، ولما علم أن الشيخ القنوبي يرى عدم ثبوت قراءة سور المنجيات ليلة الجمعة ترك ما كان عليه. كان الشيخ لا يحب التفاخر ولا التباهي ولا التعالي؛ فالناس كلهم عنده سواء لا فرق بينهم؛ فمن يراه لأول مرة لا يعرفه من شدة تواضعه، ومن تواضعه أنه طٌلب لتولي القضاء إلا أنه رفضه مرتين، وأيضا عندما يزوره ضيف يُصر أن يصب له القهوة بنفسه، ومن أراد أن يقوم بالمهمة لا يجد لذلك سبيلاً إلا بشق الأنفس، فهو يريد أن يخدم الضيف بنفسه. وهذه قصة وفاته -رحمه الله- وكم فيها من العِبرة كما رواها الشيخ خالد بن سالم الخوالدي -حفظه الله- ويذكر تفاصيلها عن ابن الشيخ اللزامي.

كان الشيخ -رحمه الله- يذهب للعمرة في رمضان في كل عام، ويمكث هناك إلى العيد حيث يعتكف في المسجد الحرام في العشر الأواخر، ولا يذهب الى العمرة في غير رمضان أبداً، ولكن كان يذهب إلى الحج أيضاً في كل عام. وكان يذهب معه دائماً اثنان من أصحابه (كبار السن مثله) أحدهما محروقي. وحدث مرة أن تُوفي صاحبه المحروقي هذا في المسجد الحرام في إحدى رحلات العمرة، فكان الشيخ عبدالله يسأل ربه أن يموت مثل ميتة صاحبه. وعلى غير العادة، ألحَّ الشيخ على أولاده أن يأخذوه إلى العمرة، ألحَّ عليهم إلحاحاً شديدًا  واستعجلهم بشدة. وفي الطريق كان لا يدعهم يتوقفون حتى يستحثهم لمواصلة الطريق بشكل غير طبيعي، وحدث مثل ذلك أيضا في الميقات. وعند الوصول إلى مكة -شرفها الله- أرادوا البحث عن سكن، لكنه قال لهم اتركوا السكن، وهيا بنا إلى المسجد بسرعة، وكأنه ضرب موعدا مع أحد هناك. فلما وصل المسجد هناك هدأت نفسه، وقال لهم تقدموا الآن، أما أنا فسوف أستريح قليلاً لأني أشعر بالتعب. فجلس رحمات ربي عليه وجلس معه بعض من كانوا معه وواصل الآخرون مناسك العمرة، ثم قال لمن كان معه أشعر بالعطش: هيا نشرب من زمزم، فذهبوا، وأحضر له كوبا من ماء زمزم، فرفعه إلى فمه، فما هو إلا أن نكس رأسه، وهنا تكامل الأجل، واستوفيت الأنفاس، وتمَّ العمر، وفاضت الروح إلى بارئها.

لقد تأثَّر الكثيرون بموته -رحمه الله- وهو في ثياب الإحرام ممن حضر حتى الذين لا يعرفونه، وقد شيَّعته أمة من الناس، ودُفن -رحمه الله- في مكة المكرمة.. رحم الله شيخنا الفاضل.