لماذا القدس بالذات؟!

 

عبدالله العجمي

 

عندما نتناول قضية احتلال فلسطين وما تبعها من تسلسل في الأحداث، تعود بنا الذاكرة – كعرب ومسلمين- للتفكير في تسلسل الأحداث التي أدت إلى هذا الاحتلال وامتداداته وربطه بكل القضايا التي تتعلّق بهذا الحدث الجلل، وإذا ما ركزنا على المسارات التي تتحرك فيها الصهيونية وتعقيداتها، نراها لا تبتعد عن مسارين اثنين:

المسار الأول: الإحساس الكامن لدى الغرب بمخاطر استمرار التواصل بين الدول العربية من جهة والإسلامية من جهة أخرى، خوفاً من تحوّل هذا التواصل - مستقبلاً- إلى وحدة إسلامية يمكنها أن تهدد مصالحهم في المنطقة، خاصة إذا ما اعتبرنا أن أراضي الدول العربية والإسلامية تحتوي على كنز من الثروات الهائلة، وعليه تعتمد الثروات التي يعيش عليها الغرب، لذلك نرى أنهم قد أعطوا اليهود وعداً لكي يقيموا دولتهم المنشودة في فلسطين، وهو ما دعا الصهاينة للقيام بعمليات لتجريد فلسطين من سكانها، كتفجير فندق الملك داوود، وارتكاب مجازر دير ياسين، وغيرها من المجازر.

وها هم قد نجحوا بذلك نوعاً ما، بعد أن فصلوا بين بلداننا العربية بهذا الكيان الذي لا يزال متحالفاً مع الغرب من أجل خلق ما يسمى في عالم السياسة اليوم: بالفوضى الخلاقة في كافة دول العالم العربي والإسلامي، وامتداداً إلى بقية الدول الإسلامية.

أمّا المسار الثاني: فهو أن الكثير من الدول العربية لم تكن تملك حينذاك أية أصالة في هويتها، بل كانت دولاً متناثرة ومتمزّقة، ولا تزال، بعد أن حوّلها الاستعمار إلى كانتونات تشبه التقسيم الإداري لتعمل حكوماتها في خدمة المصالح الغربية، وهو مرضٌ لَم تُشفَ منه غالبية الحكومات العربية.

لذلك حينما ننظر إلى فلسطين المحتلّة فإننا نراها تمثّل المظهر الماثل للعيان والتي اختزنت بداخلها كل ذلك الكم من الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين، ولا أبالغ في هذا التوصيف، خاصة أن فلسطين هي الدولة الوحيدة التي تلتقي فيها كل مقدسات الديانات السماوية، وهو البلد الذي يطمح الصهاينة بالسيطرة عليه باعتبار أنّه القاعدة الأهم لكل المقدسات الدينية، أي أنه يمكن أن يكون لاحقاً قاعدة للعالم أجمع انطلاقاً من هذه الأيديولوجية ومروراً بكثير من الأجندات الأخرى.

وبدأت الخطة بأن اغتصب الغرب أرض فلسطين بحجة الانتداب، ثم ما برح أن مهّد للصهاينة اغتصابها بحجة الاستيطان.

وحصل ما حصل، وتطور الأمر إلى قيام بعض الحروب لاحقاً، واستطاعت إسرائيل في تلك الحروب، وما تلاها من تعميق إحساس العرب بالضعف، وترسيخ الاعتقاد بحتميّة الهزيمة، واستحالة النصر على إسرائيل، ولعلّ ما ساعد في ترسيخ ذلك هو التشتّت الذي عاشه العالم العربي والإسلامي بأن غطّت المذهبية لديهم على الإسلامية، حتى وصل الأمر بالبعض أن يوحي بكلامه أن يقول عن الصهاينة: {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} [النساء:51]. طبعاً بعدما ذهب بعض المتمذهبين بأن يحكموا بالكفر على الآخرين ممن يخالفهم في بعض الآراء الفقهية، رغم أنهم يحجّون معاً ويصومون معاً ويعيّدون معاً، ما يدلّ أنهم – أي الغرب- نجحوا في مسعاهم وساعدهم بعض من بني جلدتنا في تنفيذ قاعدة: فرّق تسُد، فاستشرى التخلّف الثقافي والإسلامي في جسد المسلمين، وأصبح التشدّد يسيطر على عقول الكثير منهم إلا من رحم ربي، فالأموال التي ضُخّت لتعميق هذه الخلافات كفيلة بسدّ مجاعة العالم بأكمله ولقرون قادمة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا.

إنّ انتشاء قادة الكيان الصهيوني وهم يرون تهافت بعض الحكومات العربية لكسب ودّهم والتقرب إليهم، أنساهم أن جميع الأحرار في العالم خاصة المسلمين والعرب منهم، وحتى مع تفاوت التزامهم بواجبات الإسلام وفرائضه لكنهم يتفقون كلهم أن فلسطين هي اختصار لكل تاريخ الإسلام الحديث، باعتبار أنها تمثل العزة والكرامة والإنسانية لكل حرّ في هذا العالم، علينا أن نبقى مع فلسطين، فالقدس هي أولى قبلة للمسلمين ومنها منطلق الرسالات، خاصة أن المرويات تروي أن الله عزّوجل جمع جميع الأنبياء لنبيه الكريم بطريق الإعجاز في ليلة إسرائه، ليصلّي بهم جميعاً في بيت المقدس.. وهي دلالة على أهميته وقدسيته لدى كل الأنبياء وفي كل الشرائع السماوية.

وفي هذا السياق يقول الشاعر جاسم الصحيح:

القدس أولها عِشقٌ وآخرها عِتقٌ؛ وبينهما الأشواق تضطرمُ

يا (مريم) الأرضِ.. لم نفطمك عن وطن، مازال عن بعضه في الأرض ينفطمُ

لا تعتبي كيف أخّرنا زيارتنا، حتى تنازع فينا اليأس والحُلُمُ

أشواقنا بعد لم تنعس محاجرها، لكنّما نَعَس الإيمانُ والهِمَمُ

علينا ألا تغيب القدس عن أذهاننا، وألا ننسى أن فلسطين هي منطلق الرسالات، وهي العمق والمنطلق للأديان السماوية والامتداد لها، فإذا –قدّر الله- وانتصرت فهو انتصار للأمة جميعها.. فهلّا أدرك العرب أن لا طريق لاستعادة القدس إلا بالمقاومة؟! وهلا أدرك العالم لمَاذا القدس بالذات؟!