نظرات قرآنية ومعالم التربية الإلهية (1)



د. إحسان صادق اللواتي – جامعة السلطان قابوس

 

الحمد لله  المعروف من غير رؤية، والخالق من غير رويّة، الذي لم يزل قائمًا دائمًا، إذ لا سماءٌ ذات أبراج، ولا حجب ذات إرتاج، ولا ليل داج، ولا بحر ساج، ولا جبل ذو فجاج، ولا فج ذو اعوجاج، ولا أرض ذات مهاد، ولا خَلق ذو اعتماد، ذلك مبتدع الخلق ووارثه، وإله الخلق ورازقه. وأفضل الصلاة وأحسن التسليم على سيد خلقه وخاتم أنبيائه ورسله محمد، وعلى أهل بيته الطاهرين وصحبه المنتجبين.
إنّ هذه الدروس تتمحور أساسًا حول المحور التربوي، فهي تتناول "معالم التربية الإلهية" مثلما تعرضها لنا آيات القرآن الكريم الذي هو الموعظة الإلهية الخالدة للناس، وشفاء لما في صدورهم، وفيه الهداية الكاملة والرحمة التامة لأهل الإيمان: ﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ﴾ (1)، وقد قال عنه سيد الخلق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ): "القرآن هدًى من الضلال، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار" (2) ولا يخفى على ذوي الألباب ما في هذه الأوصاف الإلهية والنبوية للقرآن الكريم من دلالة صريحة على ضرورة أن نتخذه لنا ملاذًا ومرجعًا في شؤوننا المتنوعة، لا سيما التربوية منها؛ لكي نكون من المهتدين بهدى الله تعالى، الناجين من العمى ومن المصير إلى النار.
كلمة "التربية" جاءت، في أصلها اللغوي، من الفعل "ربا" الذي هو بمعنى نما و زاد، كما في قوله سبحانه: ﴿يمحق الله الربا ويُربي الصدقات﴾ (3)، أي يزيدها وينمّيها. ولئن كانت الزيادة ملحوظة، بحسب الوضع اللغوي للكلمة، في الناحية المادية أساسًا – ففي القاموس المحيط: "ربوت في حجره رَبْوًا و رُبُوًا، و رَبَيْتُ رباءً و رُبِيًا: نشأتُ، و ربّيتُه تربيةً: غذوتُه، كتربّيتُه" (4)  - فإنّ المعنى الاصطلاحي للكلمة كان وما زال أوسع بكثير من الناحية المادية الحسية وحدها، فقد عرّف أفلاطون التربية بأنها "هي التي تضفي على الجسم والنفس كل جمال وكمال ممكن"، وعرّفها أرسطو بأنها "إعداد العقل للتعليم وكسب العلم، كما تعدّ الأرض للنبات والزرع"، وذهب أميل دوركهايم إلى كونها "عملية التنشئة الاجتماعية للأجيال الصاعدة"، واختار الدكتور إبراهيم عصمت مطاوع أنها "عملية إنماء الشخصية بصورة متوازنة و متكاملة، أي تشمل جوانبَ الشخصية الجسدية و الاجتماعية والجمالية والروحية والأخلاقية والعقلية والوجدانية"(5).
يظهر من هذه التعريفات – وهي غيض من فيض – أنّ هناك اختلافًا كبيرًا بين الباحثين في فهم مدلول "التربية"، ومجالاتها، ووظائفها، ومناهجها، وآلياتها. وهذا ليس بالأمر العجيب في مجال حساس ومهم يستأثر منذ القدم باهتمام الجميع، على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم الفكرية والروحية.
ومما يؤسف له فعلًا أن يعتني المسلمون اعتناءً عظيمًا بما يأتيهم من هذا أو ذاك من الباحثين في هذا المجال الحيوي الدقيق، من دون أن يجشموا أنفسهم عناء الرجوع إلى كتاب الله العزيز ليطّلعوا على الكنوز التربوية الكامنة فيه، ويستفيدوا من عطاءاته التي تكفل للإنسان سعادة الدنيا والآخرة. إنّ الواجب الأول عليهم يحتّم ألّا يتخذوا هذا القرآن مهجورًا. فليعودوا إليه، وليستهدوا بهدايته، ويجعلوها الأساس قبل كل شيء آخر، وليس ثمة ما يمنع بعد ذلك من الرجوع إلى الأفكار والنظريات البشرية ما دامت لا تتعارض مع دلالات القرآن الكريم.
ولا تريد الدروس الموجودة في هذا الكتاب أن تدّعي لنفسها الإحاطة بكل جوانب المنهج القرآني في التربية، فبينها وبين هذه الدعوى خرط القتاد. إنها لا تعدو أن تكون "معالم" تعرض لجوانب محددة من "التربية الإلهية"، وفق دلالة آيات قرآنية مختارة، تتولى هذه الدروس عرض أهم ما فيها من جوانب وآفاق تربوية مهمة.

........................
المصادر:
(1)    سورة يونس: 57.
(2)    أصول الكافي، منشورات الفجر، بيروت، 2: 332.
(3)      سورة البقرة: 276.
(4)      القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مادة "ربو".
(5)      التعريفات الاصطلاحية منقولة عن كتاب "أصول التربية بين الأصالة و المعاصرة" للدكتورين صبحي أبو جلالة ومحمد العبادي، مكتبة الفلاح، الكويت 2001، ص 20- 27.

 

تعليق عبر الفيس بوك