حمود الحاتمي
كان الجو غائماً ويبعث على النشاط والحيوية، ومزاج رائع أضحى عليه المشرف سالم وهو يصل لمدرسة قرر زيارتها صباح ذلك اليوم. وما أن وصلها تفاجأ بأعداد من السيارات يفوق عدد سيارات الهيئة التدريسية التي تعود ملاحظتها في زياراته السالفة وأمهات تتوافد للمدرسة تحمل معها مغلفات ذات أشكال جذابة وحركة غير عادية يشهدها المكان
وصل إلى مكتب المديرة قبل دقيقة من طرق جرس الطابور وسلم عليها وقد بدت على ملامحها عدم الراحة من تواجده ورحبت به ولسان حالها يقول (مو جابه هذا المشرف اليوم..)..
بدأ طابور الصباح في لوحة أشبه بلوحة يوم العيد في مظهره حيث الملابس العمانية الزاهية غير المألوفة في المدارس ويصعب تمييز المعلمة من ولية الأمر وكأنه تنافس في الظهور...
بدأ الطابور بتمارين صباحية أعقبها السلام السلطاني ومن ثم تقدم يخال إلى المشرف على أنه من طلاب الصف الرابع وقرأ مُقدمة الإذاعة وتحمل في طياتها الاحتفال بيوم الأم وقد أبدعت مشرفة الإذاعة في سبك عبارات منمقة شاعرية حول الأم وافتتح البرنامج بتلاوة آيات من الذكر الحكيم ومن ثم الحديث الشريف وكلاهما يحمل في مضمونه فضل الأم
راجع المشرف في ذهنه المناسبات التي تحتفل بها المدارس ..عيد الشجرة ...العيد الوطني .. يوم محو الأمية .. يوم المعلم ...إلخ ولم يجد عيد الأم وتساءل ما الذي يجعل المدرسة تحتفل بهذه المناسبة !
تم عرض أوبريت غنائي عن الأم حيث تقدمت الطلاب طالبة نحيلة تلبس الزي البلوشي المطرز وتسريحة شعر وقد علا حاجبيها وتحاج من الحلي الصناعية وقد لوث وجهها البريء بمساحيق وكأنه لا غنى عنها هذه الأيام وصدحت بأبيات رائعة أعقبها طلاب خلفها يتبادلون الأدوار بين الغناء والإلقاء الشعري لاحظ الجميع أن قائدة الأوبريت قد تغيرت نغمة صوتها وكأنها تخفي نبرة حزن وسرعان ما أطلقت العنان لصرخة دوت أرجاء المدرسة (مااااه وينك.. أنا أبغي أمي) ظنها الحضور جزءا من مشهد الأوبريت وقد صفق إعجاباً ولكن أعقبتها حالة بكاء هستيرية مستمرة.. سرعان ما تداركت المديرة الموقف وقد أمرت معلمة الرياضة المدرسية بإنهاء الطابور في ذهول تام من المشرف سالم !!
عاد المشرف إلى مكتب المديرة وهو يحمل في ذهنه ..لماذا صرخت الطالبة؟.هل لأن الدور في الأوبريت لم يعجبها أم ماذا؟
عرض على المعلمة سير خطته للمدرسة لهذا اليوم ومنها الزيارات الصفية وعقد لقاء مع المعلمات ومتابعة مشروع (قراءتي سر تفوقي) التي تنفذه المدرسة.
الأستاذ سالم وهو يشرح خطته للمعلمة الأولى ما زال مشهد صرخة الطالبة يسيطر على تفكيره لكنه لم يبد تساؤلاً حتى اللحظة حضر الزيارة الصفية لدى معلمة الصف التي به الطالبة أخذت المعلمة حصر الطلاب في الصف وقد أخبرتها رئيسة الصف أن الطالبة (أنفال) في مكتب المديرة وهي (تصيح) حتى الآن واصل المشرف سالم سير خطته وأثناء سير المداولة الإشرافية باغت المعلمة بالسؤال عن حالة الطالبة (أنفال)
فأجابت المعلمة بنبرة حزن: أنفال موهوبة ومتفوقة وهي تحصل على المراكز الأولى في الأنشطة المدرسية وكذلك التحصيل الدراسي ويبدو أنها تأثرت بموقف الاحتفال بيوم الأم وتذكرت أمها التي توفيت العام الماضي في حادث سير وكانت رئيسة مجلس الأمهات بالمدرسة. وفي مثل هذه المناسبات حاضرة وهانحن هذا العام نفتقد وجودها
واصلت المعلمة تسرد مناقب أم أنفال ودورها في المدرسة وقد أيقظ هذا الموقف مشاعر مدفونة لدى الأستاذ سالم وقد سرح بخياله حينما كان في عمر أنفال وهو يبحث في وجوه الأمهات أي وجه يشبه وجه أمه التي توفيت وهو رضيع؟. تذكر مشهد عودته مع أقرانه حينما يعودون نهاية العام الدراسي إلى الحارة ومشهد أصحابه يهرعون إلى أحضان أمهاتهم بالفرح وآخرون يستقبلون بعبارات الشتم وعبارات عدم الرضا عن النتيجة بينما هو يرقب المشهد من بعيد على ظل جدار ولا أحد آبه بنتيجته مهما كانت ويسائل نفسه أين أمي؟؟
ليت أمي تختضنني أو حتى تعاتبني على تقصيري
ورعاية عمته له وقد أخذته مع أبنائها وقدمت لهم الحلويات التي تعدها بنفسها ومنها (الزليبية) والبسكويت الذي أتى به والدهم من دكان الحارة استفاق الأستاذ مع سرحانه على وقع استعراض المعلمة لأنشطة الطلاب وعاود السؤال لماذا كل هذا الاحتفال؟ وكان هذا السؤال بحضور مديرة المدرسة التي سارعت بالرد أنه يغرس قيمة لدى الطلاب وهو تقدير الأم فأجابها المشرف تقدير الأم يجب أن يكون سلوكا يوميا ولا يخصص له يوم يحتفل بالأم فيه وهو مضمن في المناهج الدراسية وموقف اليوم لدى الطالبة أنفال فتح جرحاً لدى كثير من الطلاب ممن فقدوا أمهاتهم وترك الاحتفال بهذه المناسبة أولى مع تعويد الطلاب على الدعاء للأم سواء كانت قد توفيت أو على قيد الحياة بالخير والجنة.
كثير من مدارسنا لا تلقي بالاً لمثل هذه الحالات مع أن سماحة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام للسلطنة قد أشار في فتوى متداولة له أن عيد الأم ليس من أعياد المسلمين بل هو من أعياد غيرهم حيث إنه ليس للأم حق عند أبنائها فلا يبرون بها ولا يضحون من أجلها إلا في يوم عيدها الذي وضعوه لها، أما المسلمون فالأم لديهم هي مصدر اعتزاز لدى الأبناء في كل حال وفي أي وقت وقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى استمرارية بر الوالدين وخاصة الأم
إن الاثار السلبية المترتبة على الطلاب في هكذا مواقف تؤثر على نفسياتهم ومستواهم التحصيلي لكون الأم حاضرة في وجدان الأطفال أثناء تنشئتهم وغيابها المفاجئ يسبب فقدا وجدانيا كبيرا .