عُقدة الدونية

 

زاهر المحروقي

في الآونة الأخيرة زاد استهداف عُمان في تاريخها وفي رموزها أكثر ممّا ينبغي، حتى بلغ السيل الزبى. وهذا الاستهداف لم يكن جديدًا؛ فقد سبقته قبل ذلك هجمةٌ شرسة ومنظمة من التكفيريين، الذين ألّفوا قصصًا وحكايات ما أنزل الله بها من سلطان؛ إلا أنّ تلك الهجمة فشلت من تلقاء نفسها دون أيِّ تدخل رسمي، لأنّ التكفير والتبديع لم يقتصر على فئة من العمانيين فحسب؛ بل كان يشمل طائفة كبيرة من المسلمين.

لكن الهجمة الجديدة هي هجمة مدروسة ومخطط لها بعناية، وضمن مخطط لا يخفى على المتابع العادي للشأن العام، وهي الهجمةُ التي سيُكتب لها الفشل؛ لأنها أساسًا اعتمدت على سرقة التاريخ وتزويره، وهذا في حد ذاته سلاحٌ قويّ لإفشال أيّ هجمة، رغم أنّ الصمت العماني أصبح مؤذيًا، هو وصيحة "التسامح" الشهيرة؛ فغيرُنا يصنع الفعل، وهو يعلم أننا ردة فعل فقط، لذلك غدا كلّ شهر يأتي بجديد، حسب رأي المكرّم د. إسماعيل الأغبري، الذي تساءل: أين هي إستراتيجيتنا؟!

ليس عيبًا أن تكون بلدًا بلا تاريخ؛ فالمهم هو ما تملكه في حاضرك، ولكن إذا لم تقتنع بما تملكه وما حققته من إنجازات، فإنك ستبقى تائهًا تنقِّب عن أيِّ دور تقنع به نفسك، لدرجة أن يصل الأمر إلى التزوير في الحقائق والوقائع بصورة مضحكة. وفي الواقع فإنّ هذه القاعدة تنطبق على أناس عاديين وعلى القبائل   والشعوب، والأغرب أن تصل إلى مستوى الدول والحكومات. فعند الإحساس بذلك النقص يفقد المرء الإحساس بجمال ما يملك، لأنه مشغول بتغطية عُقدة النقص والدونيّة المتعاظمة تلك. وغالبًا إنّ الإحساس بالراحة والأمان لن يتحقق.

وعندما أقول إنه ليس عيبًا أن تكون هناك مجتمعات حديثة ليس لها تاريخ، ففي الذهن مثلا، الولايات المتحدة الأمريكية، وهي دولة حديثةٌ ليس لها تاريخ ولا تملك ما تفخر به إلا المجازر التي ارتكبتها في العديد من دول العالم، إلا أنّ أمريكا لا تعاني من عقدة النقص، ولا تحاول أن تسطو على التاريخ البريطاني وتنسبه لنفسها وتشوِّه الوقائع التاريخية، لتثبت للعالم أنها دولة قديمة لها ماض وحضارة؛ لأنّ حكومتها وكذلك الشعب الأمريكي مشغولون بالحاضر؛ وهو حاضر مشرق، ويكفي أنها تسيطر على الكرة الأرضية الآن، فما حاجتها أن تتغنى بالماضي أو التاريخ، وأن تعيش عقدة النقص والدونيّة.

لعلماء النفس أقوالٌ ودراساتٌ عديدةٌ عن مفهوم عقدة النقص. وإذا كانت كلُّ تلك الدراسات تركِّز على عقدة النقص لدى الإنسان، إلا أننا يمكن أن نسقط تلك العقد على الدول والحكومات أيضًا؛ باعتبار أنّ من يقوم على أمر هذه الحكومات هم من البشر، يعانون ممّا يعاني منه الناس العاديون؛ لذا فإنّ تلك الدراسات تصف من يعاني من عقدة النقص بأنه يقوم بأفعال غريبة غير متوقعة، وفي الغالب تكون تلك الأفعال سلبيّة وشديدة الحدّة، حيث يقوم الشخص بإبداء ردود أفعال معيّنة في المواقف المختلفة تعبّر عن شعوره بالنقص، فمثلاً نجد بعض الأشخاص يتباهون بصفات وبأوصاف دون مبرر، بدرجة قد تسبّب الإحراج للآخرين. ويؤكد عالم النفس النمساوي الفريد إدلر أنّ مركّب النقص هو الذي يحرّك الإنسان في كافّة أفعاله، بحيث يتّجه دائماً إلى تعويض شعوره بذلك النقص. "فتتّجه حالات الشعور بالنقص إلى أحد اتجاهين لتجاوز تلك الأزمة: الأوّل هو التجاوز وذلك بعمل الإنسان على تحقيق النبوغ في أحد المجالات كنوع من التعويض عن شعوره بالنقص، والآخر: هو التعصّب والإغراق في الشعور بالنقص، ممّا يؤدّي إلى خروج الطاقات السلبية في أشكال العنف والجريمة". وللتخلّص من تلك العقدة، يرى الفريد إدلر أنه إذا اكتشف الشخص أنّ ما يمرّ به هو أحد مركّبات النقص، فيجب العمل فوراً على تقبّل الذات كما هي، وليس هناك من مانع من الوصف الموضوعيّ بدون مبالغة؛ فانتقادُ الذات المتكرّر وإحالةُ الشعور بالفشل أو الإحباط إلى وجود عيوب في الذات أمرٌ غير مقبول، فإنّ العقل الباطن يبدأ في تضخيم تلك العيوب بشكل يحيل الحياة إلى جحيم. وما يقوله إدلر مُشاهَد ومعروف في واقعنا الحالي؛ فعقدةُ "الدونية" و"النقص" أثّرتا على سلوك البعض، فخرج عن طوره، ونسي ما حقق من إنجازات -وهي إنجازات جيدة-  ليتفرّغ في التنقيب في الماضي عن أيّ ذكر أو دور، وحتى إن كان ذلك على حساب التاريخ وعلى حساب الوقائع والحقائق.

هناك مُعوقاتٌ كبيرةٌ أدت بالأوطان العربية أن تتذيّل قوائم العالم في كلِّ المجالات؛ منها مثلا أن ينفرد شخصٌ ما باتخاذ القرار على حساب الأوطان والشعوب التي ليس لها رأيٌ، وكأنها مجرّد قطيع عليه أن يطيع وينفذ؛ فرأينا كيف اتّخذ شخصٌ واحد قرارًا بالتفاوض مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، ورأينا كيف اتّخذ شخصٌ واحد قرارًا باحتلال الكويت، ونستطيع أن نسقط مثل تلك القرارات على الإطاحة بالقذافي، والعدوان على سوريا، والحرب على اليمن، ومحاصرة قطر، والكثير من القرارات التي يتّخذها شخصٌ واحدٌ حسب المزاج، فتترك تلك القرارات نتائج سيئة تتحملها الأجيال.

لستُ من المؤيدين أن يركِّز الإنسان على الماضي ويتغنى به على حساب الحاضر، ولكني ضد من ينسى واقعه ويعمل على تزوير التاريخ والحقائق، ليثبت للعالم أنّ له ماضيًا. فمن يفعل مثل هذه الأفعال، يؤكد لي أني بخير وأني أملك شيئًا عظيمًا، يوجب عليّ أن أعمل جهدي لبناء حاضري كما بنى أجدادنا ماضينا.