بيت الزبير.. أمسية من السحر الحلال

آمال الهرماسي

تأخُذنا الحياة في غياهب مشاغلها فتجمِّد العقل فينا، وتُبعثر الروحَ، وتقتل جميل الإحساس ورِقة الحواس، فنمرُّ بالحب والجمال والرَّونق والانسياب، بقلوبٍ مُتحجِّرة، وعيونٍ شاردة، لا نشعر ولا نعي، ويفلتُ العمرُ منا، وتنسابُ الأيام من بين أيدينا، وتتناقصُ أعمارنا ونحن في غَيبة من أمرنا، وفي جهلٍ براحتنا، وفي تجاهلٍ لأكنتنا.. هكذا كنتُ عندما أتتني دعوةٌ جميلة بحضور أمسية يُنظمها ركن بيت الزبير، ضِمن فعاليات معرض الكتاب، ومُثقلة كما كُنت بهموم يومي، ومتثاقلة بخطى بعثرتها التزامات حياتي، قررت أن أمنح نفسي تلك البرهة، عساني أجد فيها لروحي مرتعا، ولنفسي مراحا ولقلبي ارتياحا.

عبر ضجيج المكان، واختلاف الوجوه، وتنوع الوجهات، شققت طريقي لأدخل ذاك المكان الصغير حجمًا؛ لأجد فيه اتساعَ أفق وفكر ووجدان لطالما ناشدته، وفي دقائق لا أكاد أحصيها عجَّ المكان بأرواح عطشى لأمسية عُنونت بـ"المدرسة الروحانية"، حتى كاد المكان لا يتسع لتلك الأفواج المقبلة بشغف بحثًا عن الروح وعنفوانها.

بدأ الدكتور ناصر الطائي باسترسالٍ لا اعتيادي في وصف موسيقى الناي، وحنين تأوهاته، ورُقي ألمه لفراق جذوره، حتى شاب صوته أنين النفس التواقة للخلد، الرانية لذات الإله، الضائقة بمحدودية الجسد، فلم يعُد في المكان اتساع للاختلاف والانفراد أو التفرد، ولم نعد نسمع غير أنفاس متقطعة، مسجونة وراء نظرات شاخصة، وعقول شاردة، مع ذاك الوصف الجميل لقصة الناي، حتى إن المستمع يخاله من بني البشر يُقاسمنا الحس والإحساس، والمشاعر والشعور، ويعلُو صَوْت فيروز ليذكر غناء الناي في تلك الغابات التي اقتبست سحرها من وارف الجنان.

أوليس الغناء سر الوجود، وهل لصوت الناي من فناء بعد أن يفنى الوجود.

ثم يأتي العود برنينه الحزين، وتلوُّنه الأنيق، واختلاف نغماته العازفة على أوتار المشاعر، الموقِظَة لحنين ماضٍ كان ولم يعُد، زال وكأنه لم يكن، نغماتٌ تنطق حروفا مسجونة بين حنايا قلبٍ أرهقه الشوق، وأخذ منه الحنين، وجرف به إلى زمانٍ لا متناهي ولا محدود، أزلية النغم وعُمق صوت الوتر وأبجدية سُلم موسيقي يحكي نهاية عشقٍ وانتهاءٍ في الأزل، وبأنامل ساحرة، ترجَم عازف العود الشاب المتألق يعقوب الحراصي بسيرته الغنية، وتجربته المتميزة في مشوار ارتشاف فن العزف واحتضان آلة العود، جاء ليزيد المكان سحرًا، والقلوب ارتواء، والأنفس انتعاشا، والأرواح طمأنينة، حتى لم يعُد للزمن وجود، ولا للمكان حدود، ولا للفكر قيود.

مرَّت الثواني واللحظات، وأُسدل الستار على نوح الناي ونزف العود، وبداخل كل من الحاضرين وجد وحنين ويقظة وجدان، وكتلة أحاسيس تتناثر هنا وهناك، بين تلك وذاك، ثم يصعد الركح رجلٌ ينطق بكل ما فيه من ذكاء وبداهة؛ ليستعرض ورقة عمل حول مستقبل السينما، ووجد نفسه يغوص في ماضيها، بحنكة ودقة ومعرفة مبهرة، فكان الحديث كإيقاع بهيج، موشح بروح مرحة وتعليقات في غاية السلاسة والذكاء، بين جمهورية أفلاطون ومحكمة كافكا، وحكمة أرسطو، وظلال ماكسيم جوركي، غوص في تاريخ فلسفي، من أجل استنباط نظريات عصرية استشرافية ثاقبة، عميقة المنطلق، مترامية الاحتمالات.

كان ذاك الدكتور عبدالله حبيب في أوج تجلياته، وقمة تواضعه، وجميل معرفته وثقافته.. يعود بي التفكير إلى نقاش قريب حول حركة الثقافة في بلادنا، وما يجب أن تكون عليه، بعيدا عن لبس الخنجر وتصوير الرعاة والتصفيق المبهم والحضور السلبي، هكذا حان لمنابرنا الثقافية والأدبية أن تكون، وعلى هذا المنوال علينا أن ننسج لقاءاتنا، همُّنا في ذلك الاستفادة والمتعة، وإيصال المعلومة، وتنوير الفكر، بعيدا عن اللهثِ وراء شهرة الإعلام، وحضور فلان، والصيت وهوس الإعلام.

الثقافة.. منبرٌ للأخذ والعطاء، للاتفاق والاختلاف، للتعليم والتعلم، هي إشعاع للتبادل والتعاطي، والاستزادة والاستنارة، وبيتُ الزبير وعى ذلك المفهوم بعُمقٍ، وجسَّده ببساطة، وحقَّق أهدافه بدقة.. فكانت أمسية من السحر الحلال، اختلطتْ فيها الألحان، بنظم الكَلِم، وتداخلات العقل، بتناقضات النفس: جملها صفاء الروح، وإلهام المصطفين بعلمهم وثقافتهم، وحسن إلقائهم.

amel-hermessi@hotmail.com