هل للاختلاف نظرة إيجابية؟

 

عبد الله العليان

في حياتنا الاعتيادية ثمَّة اختلافات تدور في الأفكار والسياسات والنظرات، والرؤى العامة تجاه قضايا في مُجتمعاتنا، تتعلق بما يدور فيها من قضايا مختلفة، فالبعض ينظر للاختلاف نظرة سلبية قاتمة، ويراها تُلحق الضرر بالحياة الاجتماعية والسلم المجتمعي كما يراها هو من منظوره الخاص، وأنها قد تزيد في التوتر والاحتقان الفكري عندما تتباين الآراء، وربما تتحول إلى ما هو أكبر من ذلك بحسب فهمه، بغض النظر من هو الأصح ومن هو المخطئ في هذا الاختلاف، والبعض الآخر، ينظر لهذا الاختلاف على أنه سنة بشرية طبيعية، وجبلة إلهية في بني الإنسان في أن يختلفوا ويتباينوا فيما بينهم، مصداقاً لقوله تعالى (ولذلك خلقهم).

بل إنَّ هذا الاختلاف أراه مهماً في الحياة الإنسانيىة، حيث يُثريها من خلال هذا التباين والاختلاف الذي ينظر إليه كوجهات نظر متعددة في مناحي الحياة وصيرورتها الطبيعية، بحيث إن هذا الاختلاف لا يصل إلى الاضطراب والصراع والتوتر، مع أن القرآن ـ كما أشرنا آنفاً ـ أباح أن يكون هناك اختلاف في الآراء والأفكار بين الناس من خلال سنن التدافع البشرية، إلا أن البعض للأسف لا يقبل هذا، ويضيق صدره، ويراه عائقًا لمسيرة الإنسان، لكن ثمة أمراً جديرًا بالاهتمام والنظرة الثاقبة، وهو أن التجريح والاتهام والإساءة عند الاختلاف الفكري، لا يدخل ضمن هذه السنن البشرية الطبيعية، ولا يجوز أن يتقبل عند المغايرة والتباين، وهذا هو الإشكال الذي يقصي هذا الإثراء المهم في حياة الحضارات والثقافات، من خلال التنوع والتعدد، وديننا الإسلامي عندما ظهر في الجزيرة العربية، كانت هناك ديانات عديدة، ومع أنه انتشر وساد في الجزيرة العربية وغيرها من البلدان العربية، كالعراق وإيران والشام ومصر وشمال إفريقيا وغيرها من القارات، فإنه أبقى هذه الديانات إلى هذا العصر، ولم يضق من هذا الاختلاف ولا من تعدد هذه الديانات، وهذا يدل على أن سنة الاختلاف والتعدد سنة إلهية، وهذه من القضايا الكبيرة التي أتاحها هذا الدين بنصوص قطعية، في مسألة اختلاف الأديان، لكن الغريب أنه حتى قبول الاختلاف في المسائل الصغيرة عند البعض أصبح غير مقبول أو على الأقل يجد امتعاضًا من وجوده، وهذه من الإشكالات التي تحتاج إلى وعي بأهمية دوره في الإثراء المعرفي في الحياة الإنسانية.

فمن أين نُدرك المقاييس الصحيحة عند الاختلاف؟ إذا لم تتقابل الأفكار مع بعضها البعض وتتنافر وتتجاذب؟ وهذا هو المطلب الأساسي عندما يكون هناك اختلاف، تعدد فيها الآراء وتتفاعل في القضية الواحدة، والوعي في بني الإنسان متعدد ومختلف في مستوياته الفكرية، وعند التنوع تظهر الاختلافات عند الحوار وتتباين، وهذه ميزة كبيرة، ولها أبعاد مهمة في النهوض الفكري والعلمي، وكل الأمم المعاصرة في عصرنا الراهن، نهضت وتقدمت، حينما أفسحت المجال لحرية الحوار والنقاش وتعدد الأفكار والاختلاف، فحققت تقدما كبيرا في مسيرتها الفكرية والعلمية، بينما تراجعت الدول الشمولية، وأعني بها المعسكر الاشتراكي، التي غيبّت التعددية وقبول الاختلاف، حتى أنهار نموذجها السياسي. والعقلية التي لا تفتح المجال لتعدد الأفكار ضمن الرؤى التي تسهم في الخيرية الإنسانية وتقدمها ونهضتها، لا تجلب إلا المشكلات والاحتقانات، وخصوصا البعد الواحد الذي لا فكاك منه عند البعض ولا شيء غيره، ومن خلاله تتصّلب الآراء، وتكون الخيارات شبه منعدمة بعدم الخروج من هذا السياج الثابت للأفكار، والغريب، كما يقول د.عبد الكريم بكار أنه "في القرون الأولى كان الناس يجتهدون ويختلفون، ويجعلون من الخلاف مادة للتحرر الذاتي من ربقة التقليد، وربقة القطيع". والآن للأسف ـ عند بعضنا ـ نرى تراجعا وانقطاعاً عن هذه الرؤى الرائعة، مع أننا نعتقد أن عصرنا الراهن هو أكثر تقدماً عن تلك العصور القديمة التي سبقتنا بقرون، وربما أن ذلك العصر كان فيه النبي(ص) والصحابة، وعرفوا واقعياً مسألة القبول بالاختلاف، بالأخص في مسألة قبول التعدد والتنوع الذي كان قائماً وبقي كما كان وهذا يبرز أنهم فهموا الآية الكريمة (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم...)، والإشكالية أن الوعي بأهمية الاختلاف ضرورة مهمة، تعكس الحكمة المنطقية والعقلانية، والأهم أن يكون هذا الاختلاف هو تحري الحق والوصول إليه دون مواربة أو مكابرة، ومن خلال الصدق والعدل، ودون المكابرة والتعصب له، والذي يُؤسف له أن بعض الكتاب، لا يراعون قضية الاختلاف بالصورة الطبيعية التي تعكس تقبلهم التعددية في الآراء، وتجد من قبلهم توتراً وتشنجاً عند الاختلاف، بل إنهم أحياناً يزايدون على الحقيقة الناصعة، وهذه لا تؤسس لحوار منطقي، عندما يكون الحق بيناً وواضحًا، ولا يمكن بهذه النظرة السلبية أن يتحقق حراك فكري، يتحقق معه نهوض يسهم في إيجاد أرضية لتلاقي الأفكار وتخلخلها من خلال رؤى متعددة، بعيداً عن التهم والقذف والإقصاء.