يسألونك عن الحكمة.. قل هي من عطايا الله

 

آمال الهرماسية

كثر الهرج والمرج، هنا وهناك، وعجت أوقاتنا رسائل ومشاهد وأصوات وهتافات، وهو لعمري أقصى ما يلجأ إليه الفرد في ضوء بهلوانيات عشوائية تلوح من منابر لطالما فقدت مصداقيتها ولكن ولولتها تظل حادة الوقع مثيرة للضغينة والاشمئزاز وأحيانا للحفيظة، وليس هنا للائم أن يلوم، فالاستنكار أمام المساس بالحرمات وإن كان مجرد عواء ونباح يظل أمرا يصعب تجاهله أو التجاوز عنه، فشتان بين من ينطق متجردا من أي انتماء أو إحساس أو أصل أو تاريخ، وبين من يعي بعقله ويشعر بكافة حواسه ويُدرك بغيرته ويتصرَّف بعزته، ويثور لقضيته، شتان بين من يفزع لقرع موسيقى تفاجأه بين حراسه وبين من ينام بين أصوات القنابل وضجيج الطائرات وخطر السلاح موجه فوهته نحوه ونحو أبنائه، شتان بين عقل ثمل وآخر منتبه، وبين فكر مناضل وآخر وصولي وبين عقل ناقص وآخر عربي.

ولكن تعلمنا أنه إذا كثر الضجيج وجب الصمت لتحري المصدر والسبب والعلة واستشراف النتيجة، فضجيج بضجيج ليس إلا فوضى عارمة تعمي العقول وتموه الأبصار وتشتت البصائر،

والاستشراف يا سادة يصح بنظرة واعية إلى الماضي بعيدة وقريبة وقياس النتائج وتوقعها من خلال مسار التاريخ وتاريخ الأمم والشعوب.

منذ زمن ليس بالبعيد انطلت علينا حيل كثيرة مر الزمن فأدركنا وهمها وسيناريو حبكها من أياد ندعوها نقية وهي في الواقع مصادر لا تخفى على عاقل متعمق واع متفهم لما يدور ويحدث متجردا من الأحاسيس والتعنت والغضب والاستياء، الاستشراف علم والعلم لا يخضع لقياس المشاعر وبلبلة الاستياء وضبابية الرؤية وفوضى الكلام والتراشق بالشتائم وكيلها لمن لا يعرف ولا يعي ولا يهتم لمكاييلها.

فبين طالبان وداعش وما بينهما، والحوثيون وفلسطين وما بعدهما، سيناريو هوليودي المنبع ركيك الإخراج متكرر الأبطال، رخيص الإنتاج، فلقائل أن يقول، كيف له إذن أن قلب حياتنا وشغل فكرنا وزعزع أمننا وزلزل كياننا، فالقول والقول حق، إننا نحن وحدنا من سمحنا وساعدنا وجعلناه كائنا فكان،

نحن من صدقنا وتداولنا وأكدنا وسلمنا، والإعلام ترصد لفكرنا البسيط المتقبل دون تشكيك المنساق دون تدقيق ليزيد من هالة ذاك السيناريو الذي تتالى عليه حكام الظلام فاستقبلته عقول البسطاء وكان عليهم وبالاً، الحرب خدعة سادتي، ليست عتادا ولا زيادة عدد ولا شحن قوى، هي دهاء وتمويه لعب على الأنفس وتلاعب بالأحاسيس وغسل أدمغة ونشر خوف واستيطان رعب، فمتى ما ضعف الكائن المستهدف من الأعماق أصبح الاستيلاء عليه أمرا هينا ولقمة سائغة،

    أكذوبة تلو الأخرى، بدأت كلها بضجيج صمت له الأذان وانشغلت له العقول، وارتجفت له القلوب وانتهى بضغطة زر نهايات لامنطقية، نهايات متبلدة، هزيلة، لينشأ على أثرها سيناريو جديد ومختلف شكلا ولكنه بنفس السياق والتوجه والتكرار مضمونا، الهدف أن يظل الفكر العربي مشغولاً لا يعرف للأمان طريقًا، مشككا لا يعرف للثقة مكانًا، متذبذبا لا يعرف للارتياح سبيلا، مهزوزا لا يعرف للاستقرار وجهة،

والغريب أننا لازلنا في نفس انسياقنا نساهم بكل قوانا في نشر الإشاعات وتداولها، وكيف لا، والعدو هيأ لنا أبسط الطرق وأنجعها وهو عالم بفراغ وقتنا لتداول مشاهد مفبركة وأخبار مزوقة وقصص ملفقة، فأصبحنا من أكثر الشعوب إنغماسا بوسائل التواصل بشتى أنواعها إشباعا لضعف مداركنا وقلة اطلاعنا واكتفائنا بالمعلومة الجاهزة القصيرة المساعدة لتركيز الإشاعة البالية مساعدين بذلك العدو في خطته دون علم وإدراك بذلك.

ومن باب الاعتبار لمن يعتبر، سنسرد بعض الخدع البالية التي انطلت في وقتها على بعض الشعوب التي ذهبت ضحية التصديق الأعمى والتسليم الكامل لأكاذيب ليس يصدقها عاقل،

رغم أن هذه لم تكن مقصودة حقاً ولكنها كانت ذات أثر كبير في صالح البريطانيين. حدث ذلك منذ عهد ليس بالبعيد خلال النزاع بين بريطانيا والأرجنتين على جزر فوكلاند.

في الـ 28 من سبتمبر عام 1982 رست قوات بريطانية واشتبكت مع القوات الأرجنتينية في أول اشتباك بري في الحرب فيما عرف بمعركة غوز غرينBattle of Goose Green . النصر هنا كان يعد أساسيا لإنجلترا ليس لأهمية غوز غرين وموقعها الإستراتيجي ولكن كدفعة معنوية بعد تفوق الأرجنتين في معارك بحرية سابقة. في السادس والعشرين من أيلول انطلق فوج المظليين بقيادة الكولونيل جونز إلى غوز غرين ليقوم بإنزال. و في خطوة غريبة قامت الـBBC بإعلان أن القوات البريطانية متوجهة إلى غوز غرين على التلفزيون العالمي.

لم يرق ذلك للقوات البريطانية وخاصة الكولونيل جونز الذي هدد بمقاضاة البي بي سي ومجلس الحرب البريطاني لعدم الكفاءة. شاهد الأرجنتينيون الخبر ولكنهم اعتبروه مجرد معلومة مغلوطة تعمد البريطانيون نشرها لأنه لن يصل أحد بغبائه إلى حد كشف خططه السرية على التلفاز . ولكن لكم أن تتخيلوا مدى مفاجأتهم في اليوم التالي بالبريطانيين وهم يقومون بالإنزال – الذي لم يكن وهمًا كما ظنوا – ويحققون نصرا لبريطانيا.

وهذه أكذوبة حربية أخرى، يصعب على العقل تصديقها، ولكنها انطلت في حينها على تلك العقول المتشنجة المرتعبة،

   قد يكون الأمر بعيدًا عن التصور والاعتقاد! لكن لم يكن هذا بعيدا عن "إدوارد لانسدال"، واحد من أعتى عناصر وكالة الاستخبارات المركزية خلال الحرب الباردة. عُرف خلال حرب فيتنام بالخدع الغريبة وحيله العديدة من أجل خداع الخصم. ولعل أبرز حيله العبقرية والمجنونة برزت عندما كان يقود العمليات العسكرية ضد المتمردين الشيوعيين في الفلبين. حيث أشاع أسطورة في الوسط المحيط عن مخلوق مصاص دماء يستعمل لسانه من أجل استنزاف دم ضحاياه!

وسار الأمر تماماً وفقًا لخطته، فقد انتشرت الإشاعة بين معسكرات القوات الشيوعية على قمة تلة في لوزون، ومن أجل تدعيم الخدعة، قام بتنظيم هجمات وهمية من مصاصي دماء مزيفين على معسكرات العدو. كما قام لانسدال بنصب كمين للعدو، وبعد القضاء على العدو قام بثقب عنق أحد الجنود بثقبين ثم الضغط على عروق جسده لتصفية دمه تمامًا عبر الثقبين وكأن مصاص دماء قام بعض الجندي وقتله! وألقى الجثة على جانب الطريق.

ومع هذه العمليات المكررة، قامت قوات الشيوعيين بإخلاء المنطقة خلال فترة بسيطة، وليس شرطًا أن الشيوعيين شعروا بالذعر من إشاعة مصاص الدماء، لكن استمرت المخابرات المركزية بنشر الإشاعة واستنزاف دم الجنود لنشر الخوف في صفوف الشيوعيين.

 

منذ فترة طويلة، عُرف اللورد روبرت بادن بطبعه الغريب خاصة خلال حرب بوير الثانية في جنوب أفريقيا، وهي الحرب ضد قبائل البوير الذين أرادوا التحرر من الاستعمار الإنجليزي. وكانت أوامر بادن تقضي بتأمين الجيش البريطاني في مافكينج لكنه لم يكن قادرا على دخول المدينة لأن الحرب لم تُعلن بعد، لذلك قام بادن بطلب إذن رسمي من سكان مدينة مافكنج بدخول قواته لحماية إمدادات وجوده هناك، ولحظة حصوله على الإذن، قام بإدخال جيشه كله للمدينة، وعندما اشتكى الناس، أشار ببساطة إلى أنَّ حجم الحراس لم يتم تحديده وإمداداته تحتاج إلى حماية كبيرة.

المشكلة الثانية كانت في كيفية حماية الجيش من قوات قبائل البوير داخل المدينة والتي كانت أقوى بخمس مرات من جيش بادن. فكان لابد من خطة ثانية، عندها قام جنود بادن بدفن صناديق غامضة في الأرض حول محيط المدينة، وعندما سُئل عن ماهيتها، قال إنها ألغام أرضية قوية من إنجلترا مصممة لتدمير قبائل البوير خصيصًا!

ولتأكيد إدعائه، قام بتفجير صندوقين ملأهما بالديناميت وحرص على أن يشاهد العدو قوة الانفجار، بالتالي يخرج العدو من المدينة لتحذير القوات خارجها. بالطبع لم تكن تلك الصنايق ألغامًا أو أسلحة مرعبة، لكن أكاذيب بادن وترهاته المتواصلة كانت سببًا في انتصاره في تلك الجولة دون أن يُطلق رصاصة واحدة!

وقس على ذلك من الحيل والتكتيكات الحربية التي مصدرها وهم ونتائجها فوز وانتصار، وما هذه الأمثلة إلا محاولة لإيقاظ وتوعية فكرنا العربي لما يتعرض له من حيل وخدع هدفها هوانه وتطويعه وتكبيله بالخوف وعدم الأمان.

   فلا انصياع بعد ذلك لشعارات ترفع وخطب تلقى وتصفيق يتصاعد صداه وحماس لا يتعدى الزمان والمكان، فالفكر بالفكر يواجه، والحيلة بالدهاء تحاصر، والتسييس بالدبلوماسية يحتضن، لذلك وجدنا حكيم العرب ينبذ صداع الضجيج وهالة الإعلام المتقلب وهشاشة المنابر الصادحة، فيعبر عن موقفه بخطى ثابتة، وحديث ذكي ووجه مبتسم وضحكة ويالها من ضحكة تلخص حنكة وصلابة وثقة، فيناقش بالعقل ويدحض بالحجة ويقنع بالكلمة التي تفوق سهام نواياهم، وقرقعة خطاهم وهشاشة قولهم، ووحده سيطفئ وهم نيرانهم بصمته البليغ وموقفه الثابت وكلمته الراجحة وثباته المعهود، سلطان العرب وقائدهم وقدوتهم، بك تتعلق الآمال وبك تحتمي العروبة، ووحدك تجسم حنكة السياسة وبعد النظر وعمق وقع الموقف،

حفظك الله مولاي وسدد على طريق الحق خطاك.

        amel-hermessi@hotmail.com