الحياة الاجتماعية في عمان (1750 ـ 1850م)

النسق الاجتماعي ومظاهر الحياة في القرية العمانية (4)

د. صالح الخروصيّ – سلطنة عمان

 

نستكمل في هذه المقالة مظاهر الحياة الاجتماعية في القرية العُمانية والأنساق المرتبطة بالمكانة والمكان وسائر الأنشطة القرويّة ونبدأ بالأعمال الفلاحية، ونُثَنِّي بعدها بالمساجد ودورها في ترسيخ المنظومة القيمية، وكذلك المجالس العامة، والدور التمويلي والاجتماعي للأوقاف وبيوت المال العمانية.

(و)  المكانة الاجتماعية للأعمال الفلاحية

مثلت النخلة نظاما اجتماعيا واقتصاديا مهما في حياة العمانيين، فقد كان التمر هو المنتوج الزراعي الأكثر أهمية في البلاد. وبسبب مظاهر الطقس والمناخ ووقوع عمان ضمن النطاق الصحراوي الجاف وبسبب قلة الأراضي الصالحة للزراعة مع قلة موارد المياه وتذبذبها لم يكن هناك بديل يوفر الأمن الغذائي مثل النخيل لما لها من قدرة على التكيف مع المناخ الحار والجاف. ويصل عدد أنواع النخيل قرابة 240 نوعا متفاوتة الانتاج والجودة. وبالرغم من زراعة أنواع من الحبوب والفواكه والخضار إلا أنها لم تكن بمستوى انتاج التمور كما وكيفا. وقد ارتبطت مجموعة من الممارسات الاجتماعية بفترات العمل الزراعي الجماعي أثناء جمع المحصول أو ما يعرف لدى العمانيين بفترة القيظ، ومن بين تلك الممارسات الأناشيد والأغاني الشعبية لمساعدة المزارعين على العمل وزيادة نشاطهم. وكان توزيع العمل في مثل هذه الفترات يشمل جميع أفراد العائلة، حيث يتولى الرجال تسلق النخيل وقطف الثمار، وتتولى النساء والصبيان عمليات الاستقبال والفرزوالتجميع،ثم ينقل المحصول إلى الأماكن المخصصة للتجفيف ثم التغليف، تمهيدا لتخزينها في البيوت أو بيعها في الأسواق. وتظهر بذلك خصائص التعاون والعمل الجماعي، وتبرز قيم الاعتزاز بالعمل والمثابرة عليه رغم المشاق لا سيما في ظل غياب وسائل الراحة وقلة الأدوات التي تساعد على الإنجاز. وكانت قوافل البسور (التمر المجفف) تحظى باحتفالات شعبية في المناطق التي تمر عليها، فيما يترنم حداة الإبل بأشعار وأناشيد تسري عنهم وتبعث فيهم الهمة والنشاط.

وإذا كانت النخلة عنصرا حيويا في حياة المزارع العماني فإن تربية الحيوانات والطيور لعبت دورا لا يقل أهمية، إذ لم يخلو بيت من الماعز والغنم والبقر والدواجن التي كانت مصدرا أساسيا للحوم والألبان، ومصدرا للجلود والنسيج، بينما كانت للثيران أهمية خاصة في حراثة الأرض ورفع المياه من الآبار. في حين لعبت الإبل والحمير دورا أساسيا في نقل الناس وأمتعتهم ، وظهرت الخيول في ساحات المعارك وميادين الأعياد والحفلات، واستخدمها بعض الشيوخ والوجهاء في مواكب تنقلاتهم

ارتبط الاهتمام بالنخيل بأمر آخر في منتهى الأهمية ألا وهو نظام الري، حيث اعتمدت عمان على المياه الجوفية بحكم طبيعتها الطبوغرافية والجيولوجية في ظل عدم وجود مصادر مياه ثابتة، لذا اختزنت طبقات الأرض المياه، فعمل العمانيون منذ القــدم على استخراجها وفـق نظام هندسي فريد، حيث حفروا في الأماكن التي يتوخون وجود المياه فيها وفق أساليبهم، ثم شقوا قنوات جوفية متدرجة في العمق ليسهل رفع الماء منها إلى سطح الأرض، ثم عملوا قنوات سطحية عرفت بالأفلاج لتوصيل المياه إلى الأراضي الزراعية. كما طوروا نظاما اجتماعيا واقتصاديا خاصا بتلك الأفلاج، حيث وضعت قوانين وأنظمة لتوزيع المياه حسب حصص معينة تقسم لمدد معلومة تقاس بواسطة الظل نهارا وبالنجوم ليلا، كما صاغوا أنظمة لصيانة القنوات للمحافظة على ديمومتها. وجاء ترتيب هيكل القناة من المنبع إلى المصب بشكل يجعل الأولوية لمياه الشرب عند فجوة القناة حيث يحق لجميع الناس الشرب في ذلك الموضع. ثم يلي ذلك حمامات الرجال، وتليها حمامات النساء بعد مسافة تراعي الحشمة والخصوصية. كما تتوفر المياه في المساجد لوضوء المصلين و للشرب.

(ز) الأهمية الاجتماعية للمساجد:

من أهم المؤسسات الدينية والاجتماعية المسجد الذي كانت له أهدافه ووظائفه في حياة الناس، فلم يكن مكانا للعبادة فحسب، بل مدرسة لتعليم مبادىء الدين والقراءة والكتابة وعلوم العربية وآدابها، وكان موضعا يجتمع في أفنيته أهل الحي لتبادل الأخبار والأحاديث، وحل المشاكل والمشاركة في إدارة أمور القرية. وقد خصصت أماكن ملحقة بالمسجد لوضع أدوات ذات استعمال عام مثل نعوش الموتى وأواني تبريد الماء يتنفع منها المصلون والمارة.

(ح) المجالس العامة:

تميز المجتمع العُماني بـقيم التضامن والتكافل، ولذا فإن من بين أبرز المؤسسات الاجتماعية التي حرص العمانيون على وجودها في القرية والمدينة المجالس العامة أو ما يسمى في اللهجة العُمانية (السبل) ومفردها سَبلة، وهي عبارة عن بناء بالطين أو من سعف النخيل يخدم أغراضا متعددة من أهمها: عقد الاجتماعات لمناقشة تنظيم الحياة الاجتماعية، وحل المشكلات والخلافات، وإقامة حلقات العلم والأدب، واستقبال الضيوف والغرباء، والتجمع في مناسبات الأفراح والأتراح.

(ط) دور بيت المال و الأوقاف الإسلامية في النواحي الاجتماعية:

يتم الإنفاق من أموال بيت المال في وجوه كثيرة منها تمويل خزانة الدولة ، والمساهمة في إيجاد فرص العمل، وتوفير الغذاء للسكان، وبناء وإصلاح المرافق العامة، و بناء المساجد ومدارس القرآن وصيانتها، والإنفاق على المعلمين والطلاب، وعلى شـراء الكتب ونسخها، وما إلى ذلك. وما يهمنا في هذا الشـأن الجانب الاجتماعي فقد لعب بيت المال دورا كبيرا في الإنفاق على الفقراء والمساكين وذوي العاهات والإعاقات ، كما شملت أوجه الصرف التعويض عن الأضرار المترتبة على الكوارث الطبيعية ، و التعويض عن الخسائر المالية الشخصية والديون. وبالإضافة إلى بيت المال قامت الأوقاف بأداء دور مشابه، فكانت مصدرا من المصادر المهمة ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية. وتعددت أنواع الأوقاف في عمان وشملت مجالات مختلفة من أهمها : أوقاف المساجد وتشمل ما تحتاجه من تجهيزات تتناسب وطبيعة ذلك العصر، وكانت بعض المدارس القرآنية تلحق بالمساجد وتخصص لها أوقاف تشمل أيضا إعانات للمعلمين والطلبة. ووجدت أوقاف مخصصة لإفطار الصائمين في رمضان وصيام السنن والتطوع ، وخصصت أوقاف للنوائب والكوارث لتعويض المتضررين، وكان يدفع منها أيضا لديات القتلى، ولم يستثن أصحاب العاهات والأمراض المزمنة والمستعصية فظهرت أوقاف للمصابين بالجذام على سبيل المثال، وينطبق الحال أيضا على الأيتام والفقراء والمساكين وابن السبيل بل وللإنفاق على استضافة الغرباء الذين يتنقلون بين المدن والقرى. وظهرت أيضا أوقاف للعصي من قبيل وقف (قبان الأعور) وهي مخصصة لشراء أو صناعة عصي للعميان وما إلى ذلك من أدوات تساعدهم في محنتهم. وخصصت أوقاف لصيانة الأفلاج وحفر الآبار وبناء الحمامات العمومية والمجالس المعبر عنها بالسبل، وما إلى ذلك من مرافق ذات طبيعة اجتماعية عمومية.

تعليق عبر الفيس بوك