د. سَيْف المعمري
تُثَار حَوْل الجامعات، اليوم، تساؤلات كثيرة عبر العالم؛ فأعدادها تتزايد، وكذلك برامجها وطلابها، وهناك جامعات تقدم من يقودون الثورة العلمية والصناعية، وهناك جامعات تعيق طلابها من استثمار قدراتهم ومواهبهم نتيجة تبنيها أساليب تقليدية في التعليم، هناك جامعات توجَد على القمة وتتربع عليها، وهناك جامعات تتسلق من أجل بلوغ تلك القمة، وهناك جامعات تتفرج وليس لديها أية قدرة على مشاركة جامعات العالم سباق التسلق هذا الذي يتطلَّب أشياء كثيرة، ولو فُتِح المجال لرؤساء الجامعات للحديث حول جامعاتهم، فسوف يختلفون، فهناك من سيركز على الإنجازات الأكاديمية لجامعته، لاختراعاتها التي تقود العالم إلى مراحل متقدمة، لنظرياتها التي تقدم تطبيقات لها، لطلابها الذين يقودون شركات عالمية مؤثرة، وهناك رؤساء سوف يتكلمون عن البنية والمرافق، عن مبنى الإدارة الجديد، وعن المختبر الذي تم تحديثه، وعن الأقسام الجديدة التي تم افتتاحها، ولكنهم لن يعرجوا على أية إنجازات أكاديمية لها وزنها على مستوى العالم. لذا؛ كانت رسالة الوداع التي قدمها الرئيس المتقاعد لجامعة بيل رك ليفين عام 2012 محلَّ تحليل ونقد، رغم أنَّه كان له الفضل في قيادة جامعته غير المعروفة إلى العالمية؛ حيث انتقدَ الفكر التقليدي للجامعة كما جاء في مضمون الرسالة، والتي ظهر من خلالها أن الجامعة ما هي إلا سلسلة من المباني والمشاريع التي تتمتد وتتوسَّع دون أخذ أية اعتبارات لمنجزاتها الأكاديمية المؤثرة.
لقد سَمِعنا من بعض المسؤولين عن التعليم العالي أنَّ كلفة الطالب مرتفعة، ولكن رسوم المنح لا تغطيها؛ وبالتالي كيف لهم أنْ يُحققوا الجودة التي ينشدها الجميع؟! وكيف يتمكنون من جلب أفضل الأساتذة وهم ليس لديهم موارد كبيرة؟! لذا؛ فالواقع يفرض عليهم إما أن يرفعوا من رسوم المنح -وهذا الاتجاه يمكن أن يقابل برفض من الجهات المانحة؛ مما سيجعلها تقلص عدد الطلاب الذين ترسلهم لها- أو أنهم يستجيبون للواقع ويعملون بمستوى متدنٍّ من الجودة، وهذا يقود إلى ضعف مخرجاتها ورفض السوق لها، واتساع الفجوة بينها وبين تلبية احتياجات التنمية، بل إنَّها بذلك تقود التنمية إلى تدهور نتيجة رفدها بموارد بشرية لا يمكن أن تقبلها الشركات الكبرى، وإن قبلتها فيكون ذلك بشرط تدريبها مرة أخرى على نفقة الحكومة، وهذا يزيد من كلفة تأهيل الموارد البشرية، وكل هذا يقودنا إلى طرح مزيد من الأسئلة: هل هناك فرص مستقبلية للجامعات والكليات لأنْ تُحسِّن من مستوى جودة برامجها، مادام أنَّ البيئة التي تعمل فيها لم تتغيَّر؟
إنَّ هذا السؤال جوهري وإستراتيجي، ويجب أن يتم التفكير فيه بشكل جدي في البلد؛ لأنَّ الخيارات محدودة جدا، أمَّا المُضي نحو الأمام بالتعليم العالي وإصلاح منظومته وبنيته وبرامجه وجعلها ينافس على مستوى المنطقة والعالم، أو الثبات في المكان دون تغيير والاكتفاء بالعمل وفق الإمكانات الحالية، وهذا يعني أن الجامعات والكليات ستكون متأخرة عن مواكبة التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم وجوانب الحياة في البلد؛ وبالتالي لن تتمكن من قيادة التغيير والإبتكار في القطاعات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية، وسوف تتَّسع الفجوة بيننا وبين الآخرين في العالم، ويتزايد الطلب على ذوي المهارات النوعية من خارج الحدود بدلا من توفيرها من المورد البشري العُماني، قد يتفاءل البعضُ بحراك الهيئة العُمانية للاعتماد الأكاديمي للتدقيق على عنصر الجودة في هذه المؤسسات، ولكن مثل هذا التفاءل محكوم باستقلالية هذه الهيئة وتمثيلها بأفراد ليس لديهم تضارب مصالح مع هذه المؤسسات، وما لم يتحقق ذلك سيكون من المبكر الثقة بأية تقارير تصدر عنها!!
وفي ضوء ما تقدَّم، يبدو أنَّ البحث عن مسارات مختلفة أمرٌ ضروري في توفير جودة حتى في ظل الإمكانات المتاحة، أي يقبل عدد مقبول من الطلاب برسوم معقولة وبتوفير تعليم ذي جُودة يتيح لهم الخروج إلى العالم والقدرة على المنافسة والتكيف مع اقتصاده السريع التغيير، وهو الذي يتطلب من الجامعات أن تخلع جلبابها التقليدي، وترتدي جلبابا حديثا ترتديه كثيرٌ من جامعات العالم، وكما تصطفي الطلاب عليها أنْ تصطفي الأساتذة الذين يدرسون فيها؛ لأنَّ الأستاذ هو الذي يفترض أن يقود هؤلاء الأخيار إلى تطوير قدراتهم، الذي يعمل هؤلاء الطلاب على قيادته هو بصعوبة لأن يكون بمستواهم، ويتطلب الأمر أن توفِّر هذه المؤسسات مواردها بنفسها نتيجة الاستثمار بدلا من الاعتماد على مورد واحد يمر بضغوطات كبيرة الآن، ويمكن أن يدخل المجتمع كشريك في رفد موارد هذه الجامعات كمنح ومراكز بحثية وكتب وأجهزة، ولابد من توفير الإطار القانوني لذلك. إنَّ حالة الركود التي تشهدها بيئة الجامعات والكليات، وسيطرة أساليب العمل والتدريس التقليدية، لا تعطي مؤشرًا على انتقالٍ حديثٍ حتى وإنْ كان ذلك الانتقال يبدو حادثا في كثير من الجوانب المادية من حيث توسع المساحات والمباني، والتي قد تفتقرُ في بعض الأحيان إلى مواد أساسية للتعلم؛ مثل: المختبرات، والأدوات، والمكتبات، والمحركات البحثية الرقمية...وغيرها، وبالتالي فإنَّ التغيير لابد منه في مسار جامعاتنا، التي أصبح عمر بعضها أكثر من ثلاثة عقود، وبعضها الآخر أمضى عقدًا ونصف العقد، نعم ليس من السهل أن تبني جامعة على أرضية صلبة في فترة قصيرة؛ لأن الأمر يتطلب بعض الزمن، لكن من المهم أن يكون هناك حِراك نحو الأمام وليس الثبات في نفس المكان، لابد من تحقيق معادلة ثلاثية هي: الاستمرار في قبول نفس الأعداد أو أكثر بنفس الكلفة المالية، وبمستوى جودة يتيح للمخرجات القدرة على التنافس، أما إسقاط عنصر الجودة من هذه المعادلة، فذلك يعني تحويل هذه الجامعات -كما يقول فيديريكو مايور مدير عام اليونسكو السابق- إلى أن "تكون مصنعا للشهادات"، وتحولها إلى أن تكون مصانع لمنح شهادات لمن يرغب بغض النظر عن استحقاقه لها، يقودها على المدى الطويل إلى أن "تنقض دعائمها من الأساس ولا تلبث أن تسير في طريق التدهور والانحلال"، خاصة في ظل ازدياد عدد مؤسسات التعليم العالي في العالم، وارتفاع حِدَّة التنافس بينها على استقطاب الطلاب، وأيضا توظيف التعلم عن بُعد بواسطة التكنولوجيا لتجاوز مسألة الكلفة والتشغيل.
فهل تضع جامعاتنا وكلياتنا هذه التحديات في اعتبارها في ظلِّ الضغطِ الماليِّ الذي تمرُّ به الحكومة المسانِد الرئيسي لها؟ هذا سؤالٌ إستراتيجيٌّ كذلك يستدعي أن يُعقد حوله مُؤتمر، تُقدِّم فيه كلُّ مؤسسة خطتها للمستقبل، وكيف يمكن أن تستمر، وتعزيز وجودها وجودة برامجها.
... إنَّ مُواجهة الضغوطات الكبيرة التي يتعرَّض لها التعليم العالي؛ تتطلَّب حركة تصحيحية عاجلة لكثير من الإشكاليات التي تتفاقم نتيجة استمرارية نفس السياسات التي بُني وفقها خلال العقدين الأخيرين، والأمر يتطلب كثيرًا من الإجراءات والتحولات؛ من أبرزها: مراجعة الفلسفة التي تعمل وفقها الجامعات، فإما تحوُّل المؤسسات الحالية إلى جامعات تعمل بفلسفة مختلفة غير تقليدية للتغلب على محدودية الموارد، أو السماح بتأسيس جامعات وفق فلسفات جديدة تتيح تلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من الطلاب للتعليم العالي والدراسات العليا. لكنَّ الخطورة من استمرار التعليم العالي وفق نفس العقيدة التي بُنِي عليها، والتي يبدو أنها لم تعُد ملائِمَة للمرحلة الحالية التي يمرُّ بها البلد، والتي يأمل أن يكون فيها التعليم قاطرة صناعة مجتمع ما بعد النفط.