سِجَال الكلمة

هلال الزَّيدي

في يَوْم من الأيام، حاولت أنْ أمسك بزمام الحرف، لكنه كان عصيَّ المراس، أقلِّبه واتفحص انحناءاته، أدقق في شكله ورسمه، أجمعه ليصبح كلمة مُتقنة ذات معنى ومغزى، لكنه يأبى ويتمادى؛ فأطارده كأنني ألاحق طيراً جميلاً له شروطه الوصفية من أجل أن يطاوعني. وبينما أجهِّز سمَّ الخياط كي أغزل أيقونة الكلمات في بياض متناهي؛ همس الحرف قائلا: لقد تعبت من كثرة النقر! ألا تملون من الكتابة؟ فأجبته: هكذا الحياة، هناك من يتعب ليرتاح الآخرون، ونحن البشر لا نمل ولا نتوقف؛ إما أنْ نكتب أو نلوك الأحرف حتى آخر نفس نقذفه في هذه الحياة؛ لذلك عليك ألا تتمادى في حضورك. وبنفس عميق ونظرة مُتثاقلة قال: أنا لا أتمادى، وإنما أشخِّص الحالات الوضعية بين البشر؛ فالكلام كثير سواء المقروء أو المحكي، والحروف استخدمت في غير محلها، والجميع أصبح يعرف كي يشابك بين الكلمات فيلكم بها محيطه، والجميع باتوا يتحدثون في كل شيء من "الباذنجان" حتى علوم الذرة.. ألا تلاحظ ذلك؟!!

أيُّها الحرف: إنَّ الواقع يُدمي ولا نستطيع أن نحصي ما كتب، لكننا وببصيرة نستطيع أن نفرّق بين الكلام المعاد والمعاني الإيجابية، وكما تعلم بأن حرية التعبير تتمدد على الرغم من التجاوزات الكثيرة بسبب المفاهيم المغلوطة التي تكوّنت لدى الأفراد؛ لذلك لا تستطيع أن تبني حدوداً أو تؤطر تلك المفاهيم في عالم يموج بالمتناقضات؛ فكثير من منابر الفكر تعمل وفق نظرية التأطير حتى تحكم سيطرتها في توجيه الرأي العام.

إذن، فهي هموم كبيرة عليكم إزاحتها وتنقية السمين ليكون ذا فائدة، فأرد عليه: لا تقلق هناك من يتصدى لكثير من السموم، ويسعى لتنقية الأجواء حتى يصبح للحرف مدٌّ يتحلى به ويتجلى إلى أفق المعرفة. هنا يُقاطعني متسائلا: كيف تستطيعون أن تكتشفوا من يتحايل عليكم فيقلب المد إلى سكون؟ فأرد عليه: المحتالون كثيرون، ومهما تعمَّقوا في واقعنا سينكشف زيفهم حتى ولو بعد حين؛ وإن قولبوا المد إلى سكون سنكتشف أن الحقيقة متمددة، ولا يمكن أن تسكن بين الأدراج حتى وإن جروها من علو الأبراج.

أيَّها الساعي إلى ودي: أتحسس من كلامك التفاؤل؛ هل هي مناورة كي أنقاد إليك طوعاً لا كرهاً؟ فأجيبه بقولي: تفاؤلي مبني على المبادئ التي لا يمكن أن تقع في شرك المجاملة والخضوع؛ لذلك ستقذف الفكرة نفسها في ملعبي كي نتعارك لتوضيح لبس ما أو شرح فكرة ما، وبديهيا بأنك ستأتي طوعا كي تُجلّي الواقع وتبني الحقيقة لتكون نضّاحة بلغة الفصاحة. هنا يحاول الحرف أن يغير مجرى الحديث عندما يتساءل بقوله: أيها المتكئ إلى حروف الكلمة، ما الذي يجعل الأحاديث متشابهة بين البشر في مختلف التجمعات على الرغم من اختلاف الأجناس؟ فأشمر عن ساعدي حتى استطيع أن أفحمه بردي. صديقي اللدود: الإنسانية بمفرداتها العميقة تعبر عن الحياة، والحياة علاقات بشرية تتصارع وتتصالح، من أجل حياة كريمة لذلك فهي متشابهة في إفرازاتها، لكن هناك تباينات في تفسير الظواهر فلكل تجمع تفسير مختلف، كون التفاسير تخضع لمن يملك قوة الجاه، يقاطعني مستغرباً: قوة الجاه؟ فأردف قائلا: نعم الجاه، والمنصب والمال، فكم من بوق أغرته المادة فأصبح يردد ما يقال له كالببغاء من أجل أن يرضي "سيده"، وهؤلاء منتشرون في كل اتجاه تولي وجهك إليه!!

وبينما النقاش مستمراً، تتداخل الأفكار في تقديم ذواتها حتى يستقيم عودها في سرد مبني على قوة الوصف، ينتشي الحرف مجدداً بسؤاله: وأنت ماذا تريد مني؟ فأجيبه: أريدك أن تتفق معي ونتحد كي نلملم شتات التناثر والتناحر فنكون جمل وعبارات تسد سغبات التشرذم في كل ما يمت للإنسانية بصلة.

وبطريقة التفافية يسندُ الحرف نفسه إلى بياض الورقة ليشكلها من جديد، فيقول: أنت تبحث عن اتحاد واتفاق ولم شمل، ألا تدرك أنَّ مُبتغاك لا يُمكن أن يتحقق لعدم وجود اتفاق من أساسه؟ ألا ترى كيف يتقاتل الإنسان مع ذاته؟ هل تريد أن أضرب لك أمثلة من واقعكم؟ بخجل شديد أجيبه: لا تحاول أن تتهرب بأسئلتك الممجوجة، فالتقاتل سمة بشرية ولولاه لفسدت الأرض، ولدي قناعة تامة بالواقع لأنني جزء منه، فلا تُقحم نفسك فيما لا يعنيك. أنا أريد أن أشكل اتحاد معك لا يرتبط بشروط أو قوانين، فقط عليك أن تكون مطواعاً، متى ما أردتك تأتي.. هنا يزمجر الحرف بغضب شديد: ما تريده هو الاستعباد! ولا أرضى أن أكون مستعبداً لتمارس عليَّ أهواءك ونزواتك الكتابية.

أيُّها الحرف: لم أقصد ما تعنيه، فلا يمكن لي أن أستعبدك لقد خانني التعبير، لنتجاهل كل شيء، وأنا أريدك أن تأتي طوعا لا كرها بناء على الواقع لنسمو برسالتنا الإعلامية.. فيجيبني: إذا كان كذلك فقد "هيت لك" وما عليك إلا أن تهم بي!.. فهممت به إلا أن المساحة انتهت، فكان ذلك سجال الكلمة.

-----------------------

همسة:

سلامٌ يمتد إليكِ.. وشوق يتمدد بكِ.. وطهرٌ يتوشح هدبيكِ.. فسلامٌ مني بشوق ولهفة الطهر في شفتيكِ.

[email protected]