في بلاد القدِّيس جورج (9)

 

 

د. مُحمَّد العريمي

 

في اليوم الثالث لنا في تبليسي، كانت الخطة المرسومة تقتضي الذهاب شمالاً نحو جبال القوقاز باتجاه الحدود الروسية.. قرأتُ كثيراً عن جبال القوقاز أو (القفقاز)، لكنَّني لم أتخيَّل ليوم أنني سأزورها، أو سأصعد إلى أعلى قممها عبر تلفريكٍ مكشوفٍ يحيل راكبه إلى تمثالٍ أبيض يقترب من التجمُّد! أو أن قلبي كاد يتوقف وأنا أرى أصابع رجلي تقترب من اللون الأزرق بسبب شدة البرد، لولا نخوة وشهامة وكرم عجوز جورجية ساقتها لي الأقدار في اللحظة المناسبة وكأنها ملاك رحمة!

يضحك إحسان -وهو سائق عراقي آخر غير أسامة- على هيئتي الغريبة وملابسي العجيبة؛ فكيف لشخصٍ أن يذهب إلى معقل الثلج في جورجيا وفي توقيتٍ كهذا بشورت وقميص وحذاءٍ مكشوف! إذا كان هو ذاته قد تدثر بعددٍ لا نهائي من السترات والجاكيتات الطويلة، وإذا كان أبناء البلد نفسهم الذين اعتادوا أجواء كهذه لا يخرجون من غرفةٍ لأخرى إلا وقد وضعوا على أجسادهم ما تنوء عن حمله الجِمال من ملابس، فما بالكم بهذا الغريب القادم من بلاد الحر والصحاري! أتحداه بأنني سأقضي وقتاً ممتعاً، وأنني سأؤكد لهم قدرتنا نحن سكان السيوح على تحمل أعتى الظروف ما دمنا قد تحملنا قبلها حرارة يونيو في العامرات! وليتني ما كابرت.

نودع المدينة الهادئة سالكين الطريق السريع باتجاه كارفور ومسخيتا التي لن ندخلها، ومنه سنسلك طريقاً رأسياً قديماً غير مزدوج باتجاه الشمال تاركين "الهاي واي" يتهادى حتى يصل باتومي الساحرة في أقصى الجنوب الغربي. نقف أمام كافتيريا يبدو أن منظمي الرحلات السياحية اتفقوا على أن تكون محطة الاستراحة الأولى لهم بدليل أن بضعة سيارات وحافلاتٍ سياحيةٍ وقفت بجوارنا فور وصولنا. نطلب الخاشبوري كالعادة باعتبارها الوجبة التي نعرفها جيداً، وسبق لنا تذوقها واستحسان طعمها والاتفاق على لذتها، وكنا قد احتطنا بالطبع بدلَّة قهوةٍ معتبرةٍ من النوع الذي لو سقيته لخرتيتٍ غافٍ فسيقوم كنمرٍ ينقض على فريسة! إضافة إلى كمية من تمر السكري والخلاص تكفي بضعة حبَّاتٍ منه كي تلف العالم مرتين وتقول هل من مزيد!

نلمح اثنين من الشباب يترجَّلان من سيارةٍ قريبة فأؤكد لأحمد أنهما عمانيان لا محالة. نقترب منهما للسلام فنتأكد من التخمين السابق. أحدهم من عبري والآخر من صحار، أتيا مثلنا في رحلةٍ سياحية. ندعوهما كعادة العمانيين عندما يتقابلون في أي مكانٍ في العالم إلى فنجان قهوة و"فردة" تمر، ونتناقش كأي عمانيين يتقابلان عن السكن والأسعار والجداول السياحية، ثم نتبادل الأرقام والعناوين على أمل اللقاء، ثم نكرر ذات السلوك عشر مرات طوال الرحلة؛ لأننا كنا نتقابل بعدها في كل محطةٍ من محطاتها حتى وقت العودة!

كان الطريق الذي سلكناه فقيراً لا يمت لشوارع تبليسي وما حولها بأية صلة، ويبدو أننا عدنا خمسين سنةٍ للوراء، فالقرى كئيبةٌ باردة، بضعة أكشاكٍ ومبانٍ قديمةٍ من بقايا العهد الغابر هنا وهناك. لا محلات أو مقاهي يمكن أن تلمحها على جانبي الطريق، عربات قديمة متناثرةٌ تسأل نفسك عند رؤيتها مليون مرة: كيف تعمل سيارة تعود إلى العصر الحجري في هذا الوقت؟

نصلُ أخيراً إلى أناناوري وهي محطة سياحية جميلة، وتعد من المزارات المهمة للذاهب إلى جبال القوقاز. هنا يلتقي التاريخ مع الطبيعة، وتمتزج الكنيسة مع البحيرة والسد والجبال الخضراء ذات القمم البيضاء في منظرٍ مهيب، وتكاد ترى الفرسان على خيولهم بلباس فرسان العصور الوسطى وهم يخرجون سراعاً من البوابة الكبيرة في القلعة القديمة نحو حروبٍ لا تنتهي. أناناوري باختصار عبارةٌ عن تلةٍ عالية أقيم عليها قلعةٌ من بقايا العصور الوسطى بأسوارها العالية، وسراديبها الضيقة ملحقةٌ بها كنيسةٌ لا تختلف عن المليار كنيسةٍ الأخرى في جورجيا، وتطل على بحيرةٍ واسعة أقيم عليها سد يمنع مياهها من الفيضان ربما، وجبالٌ عالية تحيط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم.

وعلى مَدَاخل المكان، وقريباً من أسوار الكنيسة، اصطفَّ عددٌ لا بأس به من الباعة المحليين يعرضون منتجاتً أغلبها محلية للذاهبين إلى غوداوري؛ حيث الثلوج والبرد والتزلج من قفازات، وأغطية رأس، وجوارب صوفيةٍ وغيرها. شيطاني الذي بداخلي يحن قليلاً كي يسمح لي بأن أشتري واقي رأس وقفازا أسود لم يكنِ الأمتن مقارنةً بما حوله، لكني لو لبسته دقيقةً في عُمان وفي أبريل وقت رحلتنا لا يونيو لتحولت يداي إلى اللون الأحمر طوال عمري من شدة الحرارة! سمح لي شيطاني كذلك بشراء غطاء رأسٍ يبدو أنه مستورد، ذلك أنني لمحت عليه حرفين مختصرين يدلان على اسم الولايات المتحدة، وهو فعلٌ لو تعلمون عظيم، ويمكن أن يؤدي ببائعه إلى غياهب المجهول لو عدنا أربعين سنةً إلى الوراء!

نترك أناناوري بعد جولةٍ قصيرةٍ في سوقها وكنيستها، وبضعةِ صورٍ هنا وهناك كعادتنا عند وقوفنا في أي مكان لنواصل طريقنا باتجاه منتجع غوداوري حيث ضربنا موعداً مع الثلج والجليد لأول مرةٍ في حياتنا! على جانبي الطريق نلمح شاحنات نقلٍ واقفة في مسارٍ طويلٍ أطول من ليالي النابغة. كانت هذه الحاويات تعمل في نقل البضائع بين جورجيا وروسيا، ويبدو أن هناك أمراً سنكتشفه فيما بعد تسبَّب في وقوفها بحيث احتكرت إحدى حارات الطريق الضيق أصلاً، تاركةً حارةً يتيمة ملآى بالحفر والصخور للذاهبين والقادمين!

وبينما نحن في طريقنا إلى الأعلى باتجاه المرتفعات، والحفر تزداد، والصخور المبعثرة وسط الطريق تتكاثر إذ بزخات مطرٍ ما لبثت أن ازدادت عند تقدَّمنا لتتحوَّل بعدها إلى ما يُشبه العاصفة، ثم يبدأ كل شيء يحيط بنا في التحول التدريجي إلى اللون الأبيض كلما ازددنا ارتفاعاً، لنجد أنفسنا بعدها وسط ما يشبه الصحراء البيضاء! يستغرب سائقنا مما يحدث؛ فصحيح أن الشتاء لم ينقضِ بعد، وصحيح أنَّ الثلج موجود وسط هذه المرتفعات، لكن في العادة لا تحدث أمطار أو عواصف ثلجية في مثل هذا الوقت، ولهذا السبب توقفت الشاحنات عن التقدُّم! قلت له وأنا أبتسم: يبدو أن الله استجاب دعائي، فأنا كنت أحلم بأن أعيش يوماً ما لحظةٍ كهذه، قرأت عنها كثيراً وتمنيت لو عشتها مرة مهما كانت الظروف، فها أنا أرى الثلج لأول مرة، وها أنا أتخيل جنود هتلر وهم يتقدَّمون وسط الأراضي الروسية منتصف الشتاء في جوٍّ كهذا، وها أنا أعيش قصةً من قصصِ الرعب في غابةٍ من غابات ألمانيا الباردة. ألا يكفي كل هذا لنفرح بما حولنا! نظر إليَّ وهو يقول: فلنر هذه الابتسامة وأنت تغوص بعد قليل بحذائك المكشوف هذا وسط هذا الجو!

Mh.oraimi@hotmail.com