في بلاد القدّيس جورج (8)

 

د. محمد العريمي

كنّا في طريق العودة إلى تبليسي قافلين من غوري أو (التل)؛ المدينة التي اكتسبت شهرتها كونها مسقط رأس الزعيم السوفييتي ستالين، بعد أن طفنا بمتحفه، وعرجنا على بعض آثارها وما أكثرها! للكنيسة الأرثوذكسيّة تأثير كبير في جورجيا بحيث لا تكاد تتحرّك خطوةً هنا أو هناك دون أن تلمح كاتدرائيّة، أو ترى كنيسةً، أو تدخل ديراً أو قلعةً يعود عهدها إلى زمن انتشار المسيحيّة فيها، وأكاد أقول إنني اكتفيت حتى الثّمالة من رؤية الكنائس، ومطالعة المنمنمات وصور المسيح والعذراء المعلّقة على حيطانها، وراقبت القساوسة وهم يوقدون الشّموع المتناثرة، وتأمّلت المصلّين وهم يقفون بخشوع أمام صور المسيح، وهي أمنيةٌ كانت مؤجّلةٌ منذ درست تاريخ أوروبّا في العصور الوسطى لأول مرة قبل حوالي عشرين سنةً من الآن!

كانت النيّة أن نعرج على متسخيتا التي تقع على طريق العودة إلى تبليسي، وبالطبع فلا يمكن لزائرٍ إلى جورجيا أن يغادرها دون زيارة هذه القرية التاريخيّة المهمّة لاعتباراتٍ عديدة؛ فعدا أنّها كانت العاصمة القديمة لجورجيا زمن العصور الوسطى، وهي الفترة التي شهدت ظهور عصر الإقطاع وسطوة الكنيسة، ويوجد بها كمٌ هائلٌ من الآثار التي تدل على الدور الذي لعبته في أحداث تلك الفترة؛ فهي مدينةٌ ساحرة بسبب موقعها الجميل خاصّة وأنت تشاهدها من أعلى تلّة جيفاري، حيث يمكن أن تشاهد أروع منظرٍ طبيعيّ عند التقاء نهري كورا وأراجبي كثعبانين متعانقين!

في طريق العودة وقبل الوصول إلى متسخيتا نمرّ على عددٍ من القرى الرابضة على جانبي الطريق، تشدّنا أحدها بألوان بيوتها الزاهية كقوسِ قُزح، وإطلالتها على أحد الأنهار، فنتوقّف ريثما نترك العنان لأعيننا كي تأخذ مطلق حرّيتها في التمتّع بالملمح البصريّ العجيب الذي يحيط بها؛ نهرٌ جارِ، وبيوتٌ زاهيةُ ملوّنةٌ بألوان الفرح، وجبالٌ خضراء تعمّممت بلون الثلج! أسأل أحمد: هل رأيت منظراً كهذا من قبل! يجيبني: نعم، رأيته كثيراً جداً.. في أحلامي!

نترك القرية بعد أن التقطنا حوالي 6784532 صورةٌ متنوّعة وكأننا لن نعيش هذا المشهد مرّة أخرى فاعتقدنا أن هذا العدد من الصور كافٍ للفترةِ القادمة من حياتنا! لنصل أخيراً إلى المنعطف المؤدي لمتسخيتّا قبل علامة كارفور الشهيرة التي تتصدّر واجهة (تبليسي مول). تبعد المدينة تحديداً حوالي 20 كم من تبليسي، وكانت في القديم مدينةً تجاريّةً مهمّة لوقوعها على الطريق التجاري القديم بدليل الاكتشافات العديدة التي وجدت بها كزجاجات العطور، والفخار، والمجوهرات والمعادن، وغيرها.

ولأن المدينة كانت عاصمةً لجورجيا في العصور الوسطى زمن انتشار المسيحيّة والتي كانت جورجيا فيها لاعباً مهمّاً، فقد كان من الطبيعي أن تتحوّل المدينة إلى متحفٍ تاريخيٍّ يعجّ بآثاره الدينيّة المختلفة، بحيث تكاد تجد تحت كل حجرٍ تمثالاً أو أيقونةً لقدّيس، أو حتّى كنيسةً أو ديراً، بحيث أصبحت من مواقع التراث الإنساني بحسب تصنيف منظمة العلوم والثقافة (اليونسكو)، فها هي الكاتدرائيّة الملكيّة بأرضيّتها الّتي تتضمّن نوافذ زجاجيّة تتوسط المدينة، وهي المكان الذي ظلّ لقرونٍ عديدة مقرّاً لتتويج ودفن ملوك جورجيا، وتلك كنيسة سامتافرو التي تعود إلى القرن الرابع الميلادي وهي الفترة التي شهدت بداية انتشار المسيحيّة بعد مجمع نيقيه المقدّس بلوحاتها الجداريّة، ونقوشها ورسوماتها المختلفة، وذاك دير شيو الذي كان من أكبر أماكن تجمّع الرّهبان في جورجيا، عدا عدد كبير آخر من الكنائس والأعمدة والأنصبة الأثريّة، والكهوف التي كانت تمارس فيها الرهبنة في دلالةٍ واضحة على مدى تأثير أحداث العصور الوسطى على المكان!

بعد الجولة في متسخيتا ومشاهدة آثارها وأسواقها الشعبيّة حيث يمكن أن تجد أكبر كميّة من التحف والهدايا ذات الطابع الديني البحت نذهب لزيارة دير اسمه جفاري، وهو ديرٌ يعود تاريخه إلى القرن السابع الميلادي ويقع على إحدى التلال الجميلة المطلّة على متسخيتا. كانت الساعة تقترب من الرابعة عصراً عند وصولنا، وكان البرد قارساً يكاد يجمّد العظام، فما بالكم بنا ونحن نتدثّر بملابس هي إلى الصيف أقرب في بلدٍ يعدّ البرد والثلج به علامة تجاريّة مسجّلة! نهبط من السيارة راكضين باتجاه الدير الذي يقع أعلى التلّة القريبة من المواقف. ثمّة سورٌ حجريّ يحيط بالدير، وهناك ممرٌ مبلّط يربطه بالمواقف، ومصاطب حجريّة تؤدي إلى مدخله. يقف الدير كئيباً وسط التلال المحيطة به وكأنّه حارسٌ أزليّ للمدينة التي يطلُّ عليها، أدخل الدير باحثاً عن دفء أكثر من كوني باحثاً عن المعرفة، ألمح أحد القساوسة وهو يتتبّع الشموع المتناثرة كي يوقدها فأقترب من بعضها وجسدي كلّه يرتجف من البرد والبلل لأمنحه بعضاً من الدفء الجميل.

بعد فترة التقاطٍ للأنفاس واستردادٍ لجريان الدم الذي كاد أن يتجمّد في العروق أنطلق متأملاً محتويات الدير القديم، ألمح شرفةً حديديّةً قريبة فإذا هي تطلّ على منظرٍ يخلب الألباب، منظرٌ لا يمكن أن تجده سوى في مخيّلات رسّامي الطبيعة في أوروبّا وبلاد فارس؛ منظر المدينة من الأعلى والنهرين يخترقانها ثم يلتقيان معاً كلٌ بلون؛ هذا بلونٍ أزرق، والآخر رمادي بينما تتداخل ألوان القرميد التي تزيّن أسقف البيوت مع ألوان المروج الخضراء والقمم البيضاء المطلّة على المدينة!

أتناسى البرد القارس لأمنح نفسي أكبر قدرٍ من المتعة في تأمل المناظر المطلّة من الشرفة وما حولها. أضرب بيدي التي تكاد أن تتحوّل إلى كتلةٍ عديمة الدم على الجدار القريب فأستعيد الألم الذي كنت أشعر به صغيراً وأنا أركل برجلي الحافية حجراً صغيراً صباح يومٍ شاتِ، ثم أتخيّل كيفيّة بناء هذا الدير وأمثاله وسط جوٍ كهذا، أقترب من أحمد كي أسأله: ترى هل كانت لديهم جوارب وقفّازات وهم يحملون كلّ هذه الصخور من التلال المجاورة ليقطّعونها ثم يبنون بها؟! يبتسم أحمد متجاهلاً سؤالي الوجودي ليشير إلى السيارة التي تنتظرنا كي تعود بنا إلى حيث الدفء، وما تبقّى من حبّات (الخلاص)، وبقايا قهوةٍ سوداء أعدّها صباحاً!

 

 

 

Mh.oraimi@hotmail.com