في بلاد القدّيس جورج (6)

 

د.محمد العريمي

اليوم الإثنين هو الثاني لنا في جورجيا، وتحديداً في العاصمة تبليسي. كنت قد اتفقت مع كريم على توزيع أيام الرحلة الثمانية بين تبليسي وباتومي الساحرة مناصفة، وعلى توزيعها بالتساوي كذلك في المدينتين بين جولاتٍ داخليّةٍ وخارجيّة، بحيث نحاول قدر الاستطاعة الإلمام بأكبر قدر من المعرفة بتاريخ وحضارة ومعالم وجمال هذا البلد، ومحاولة غور أسباره، واستخراج مكنون تراثه، والغوص في أعماقه.

ولأنّنا قضينا اليوم الأول في التعرف على معالم تبليسي المدينة، ومحاولة حفظ خارطتها، وتلمّس الأماكن البارزة على ظهرها ما بين معالم طبيعيّة، وأخرى أثريّة، وثالثة حضاريّة، لذا فقد خصّصنا هذا اليوم لاكتشاف ما خلف أسوار هذه المدينة من معالم وما أكثرها! ما يميّز جورجيا أنك تجد خلف كل حجرٍ مكاناً يصلح للزيارة، بل إنّ بعضهم قد يزورها من أجل قضاء وقتٍ جميلٍ في قريةٍ وادعةٍ من قراها تاركاً خلفه عشرات المدن والقرى والمعالم الأخرى! لذا كانت أمامنا مجموعة كثيرة من الخيارات التي علينا أن نحشر زيارة بعضها خلال يومين؛ وهي الفترة التي خصّصناها لزيارة المعالم المجاورة لتبليسي على أمل العودة مرّة أخرى يوماً ما لاستكمال زيارة بعضاً آخر من المعالم المتبقيّة!

عرض علينا كريم مجموعة من الأماكن المعروفة والتي كنت قد قرأت عن بعضها قراءةً وافية كنوعٍ من الاستعداد لزيارة الدولة، مثل المدن الواقعة على الطريق ما بين تبليسي وباتومي كمدينة غوري حيث متحف ستالين وقلعتها الأثريّة. ما لا يعرفه الكثيرون أن ستالين الذي حكم الاتحاد السوفيتي منتصف القرن العشرين هو من أصلٍ جورجيّ! ومدينة برجومي بعيونها الكبريتيّة وغاباتها التي تصلح مسرحاً لإحدى روايات الرعب، أو الأماكن الواقعة على الطريق المؤدي إلى جبال القوقاز والحدود الروسيّة مثل كازبيجي على المنحدرات الشمالية لسلسلة جبال القوقاز حيث مسرح الأسطورة الإغريقيّة القديمة التي تدور حول قيام سادة الأولميب بمعاقبة البطل بروميثيوس الذي سرق النار ليعلّمها للبشريّة فحكمت عليه بأن يعلّق بين جبلين من جبال القوقاز ويأتي الرّخّ لينهش قلبه كل ليلة ثم ينبت له قلبٌ جديد؛ وهكذا في عقاب أبديّ، وأناناوري حيث تتجاور الكنيسة مع البحيرة مشكلتين لوحةً طبيعيّة يصعب محوها من الذاكرة، وحيث باعة المستلزمات الخاصّة بالتزلّج كونها على الطريق إلى مرتفعات قاداوري عاصمة السياحة الشتويّة في جورجيا، بالإضافة إلى أماكن أخرى لا تقلّ روعة وجمالاً وسحراً منتجع لوبوتا الاستثنائيّ، ومدينة متسخيتا الأثرية التي كانت يوماً ما عاصمةً لجورجيا.

ونظراً لتعدّد الأماكن وصعوبة زيارتها جميعاً خلال يومين، فقد قرّرنا أن نقسّم الجولات طبقاً للتوزيع الجغرافي لها بعيداً عن عشوائيّة الانتقاء أملاً في تغطية أكبر قدر من هذه المعالم الواقعة في نفس المسار بحيث نأخذ هذا اليوم المسار المتّجه إلى باتومي، بينما نأخذ في اليوم الآخر مسار طريق القوقاز، لذا فقد قرّرنا أن نستفتح جولتنا بزيارة مدينة غوري التي تبعد حوالي 150 كيلو عن تبليسي مستبعدين برغومي الجميلة بداعي ضيق الوقت!

كانت انطلاقتنا من شارع روستافيللي في تمام العاشرة وسط جوّ شديد البرودة على الرغم من أننا في أبريل حيث كانت درجة الحرارة في مسقط وقتتها تتجاوز الأربعين! يصرّ أحمد على أن نتوقّف أمام أقرب محل ملابس لشراء (جاكيت) يقيه هذا البرد القارس، إلا أنّ أسامه (يكبّر دماغه) ويكمل طريقه وكأنّه لم يسمع توسّلاته. نأخذ الطريق السريع الذي يصل العاصمة بباتومي وهو طريق حديثٌ واسعٌ وقليل الازدحام. يذهب خيالي بعيداً حيث آخر زيارة لي لإندونيسيا وحسبة مقارنة بين الطرق في الدولتين. ما أبعد المسافة بين الأرض والسماء! ها هي معالم الطريق تتّضح. ها هو (تبليسي مول) بشعار كارفور الضخم والذي كنت أعتقد سلفاً أن البلد يخلو من المولات لأتفاجأ بوجود مركزين تجاريين كبيرين على أطراف العاصمة أحدهم هنا، وذاك هو الطريق الفرعي المؤدي إلى مدينة متسخيتّا الأثرية، على جانبي الطريق كان اللون الأخضر هو السائد، فعلى الرغم من أننا في أواخر الشتاء إلا إن الأرض كانت ترتدي حلّة خضراء قشيبة، ذاك حلمٌ آخر من أحلامي يتحقق ألا وهو رؤية المراعي الخضراء والخراف تملؤها بغثائها وحبورها، بينما بضعة طواقي بيضاء تغطّي القمم الخضراء. تستعيد ذكرياتي قصيدة الشابّي الشهيرة التي درسناها يوماً ما ولم أستوعبها وقتها. كان يتحدّث عن منظرٍ مشابه! أما المشهد داخل السيّارة فكان غاية في الطرافة والتناقض: أسامه يعرض علينا شراء سمكٍ في طريق العودة والقيام بشويه على تلّة تطل على ضفاف نهر كوراي، وأنا سارحٌ في ملكوت الله مع المنظر الخارجيّ المذهل ومع صوت وردة التي كان ينسكب من اليوتيوب صافياً رقراقاً كانسكاب الماء من شلالات نياجرا باحثاً عن عباراتٍ وجملٍ أخزّنها لحين موعد الكتابة، بينما يغالب أحمد غضبه المكبوت وتبرّمه الشديد من أسامه الذي لم يتوقّف لشراء الجاكيت على الرغم من مرورنا بعدد من المراكز التجاريّة والمحلات المتخصّصة في مجال الملابس بمحاولة النوم. للمرّة الأولى طوال الفترة التي قضيناها معاً أرى أحمد متضايقاً على الرغم من مداعباتي المتكرّرة له وإغراءه بمحاولات النزول لتصوير المناظر الجميلة وهو الفنّان الذي يعشق التصوير كعشق صديقي أبا القاسم للقراءة!

نصل أخيراً إلى غوري أو التل باللغة العربيّة. المدينة التي تقع شمال شرقي جورجيا، والتي اكتسبت شهرتها كونها مسقط رأس الزعيم السوفييتي ستالين بجبالها المليئة بالكهوف، ومتاحفها المتنوّعة، وقلعتها الشهيرة المشيّدة أعلى إحدى التلال التي تتوسّط المدينة. في أحد الشوارع الكئيبة بمبانيه القبيحة التي تعود إلى فترة الحكم السوفييتي، وبأشجاره العارية نتيجة الشتاء الطويل يشير أسامه إلى أحد المباني كي ندخله. كان المبنى يمثّل متحف ستالين وهو أحد أشهر معالم المدينة السياحيّة ولولاه لعزف الكثير من السيّاح عن زيارة المدينة التي لا زلت أحتفظ لها بذكرى كئيبة في داخلي. كانت المدينة تمثّل الحقبة السوفييتية أجمل تمثيل بمبانيها الضخمة الخالية من لمسة جمال، وشوارعها الرماديّة، وسياراتها العتيقة والبرد الكئيب الذي يغطّي المكان كفقاعةٍ ضخمة. نترجّل من السيّارة راكضين نحو باب المتحف القريب بينما (ريحٍ صرصرٍ عاتية) تتلاعب بنا يمنة ويسرة، جال بخاطري وقتها صورة الرجل في هذه الأنحاء كما رسمته مخيّلة القصص التي كنت أقرأها بجاكيته الطويل، والقلنسوة الصوفيّة التي تغطي الرأس، والشارب الكثّ، لا يمكن أن تسكن في بقعةٍ كهذه دون أن ترتدي ما كتب أعلاه! ندخل بوّابة المتحف الخالي من الزوّار سوانا وربما اثنين آخرين في وقت لا يعد من مواسم الذروة السياحيّة، وكان قطار ستالين الأخضر، وتمثاله الذي ينتصف فناء المتحف أول مستقبلينا في جولتنا القادمة.