في بلاد القدِّيس جورج (5)

 

 

د.محمد العريمي

كنَّا قد وصلنا إلى حديقة "رايك" بعد عبورنا جسر السلام، وهي أشبه بميدانٍ أخضرٍ فسيح تتوزَّع على جنباته المقاعد الخشبية، وتتوسطه نوافير مختلفة، وتحيط به معالم حضارية متنوعة، ويتوسط الحديقة مبنى التلفريك أو الترام الجوي الذي يربط بين المعالم السياحية القريبة، والذي قطعنا منه تذكرتين لجولة تشمل تلك المعالم التي كنا نراها ولا نكاد نصل إليها!

يرتفع بنا التلفريك عالياً متكرماً ومتفضلاً علينا برؤية أحلى لوحةٍ بانورامية عجيبة لا يمكن محوها بسهولةٍ من الذاكرة؛ حيث يُمكن أن تلامس أبراج الكنائس، وتقترب من أسوار القلاع القديمة، وتساير النهر في رحلة عبوره إلى المصب حتى يتوقف بنا قريباً من نصب (كارتفليس دادا)، أو  أم الجورجيين، وهو تمثالٌ ضخم من الألمنيوم يبلغ طوله حوالي عشرين متراً بني في العيد 1500 لإنشاء تبليسي، ويمثل امرأةً ترتدي الزي الجورجي، وتحمل في يدها اليسرى وعاءً من النبيذ، وفي يدها الأخرى سيفاً مصقولاً، في إشارة إلى ترحيب البلد بالأصدقاء، وتصديهم للأعداء!

وعلى ذكر النبيذ، فلا شيء أوفر من النبيذ في هذا البلد، فهو يباع في كل محلٍ وكشك، عدا المقاهي والمطاعم والحانات، حتى لتكاد تجزم أنهم يستخدمونه بدلاً عن الماء، وتكاد مصانعه تتفوق على أعداد الكنائس فيها، بل إن هناك مزارات سياحية عدة هي عبارة عن مصانع لإعداد النبيذ يتعرف من خلالها الزائر على كيفية تصنيعه، ومراحل عصره وتعتيقه، والفرق بينه وبين الأنواع الأخرى المنافسة، ومن العادات المتعارف عليها هنا عند إقامتك في أحد الفنادق أو الشقق، أو زيارتك لإحدى الأسر هو تقديم هدايا من زجاجات النبيذ المعتق للضيوف في إشارة إلى الود والترحيب، بل إن أغلب محلات مطار تبليسي (القليلة) مخصصة لبيعها دون غيرها من السلع!

يهبط بنا التلفريك مرة أخرى، لنرجع عائدين حيث بائعة عصير الرمان على مدخل الجسر، وحيث ثاني كوبٍ منه خلال ساعة. أسأل أسامه عن جولتنا التالية فيقترح علينا الذهاب إلى "متاتسميندا بارك"، وهو: مكان كلش حلو وراح يعجبكم هوايه "يقولها بلهجته العراقية المحببة". ننطلق إلى هناك لأكتشف أنه ذات المكان المرتفع الذي كنت أراه في كل مكان أذهب إليه في تبليسي، والذي كنت أتساءل عن كنهه، فأعتقد أحياناً أنه مركز اتصالات بسبب وجود البرج العالي الذي يتوسطه، وأتوقعه تارةً أنه حديقة طبيعية! نصل إلى بوابته لنقطع تذاكر لنا بقيمة ثلاثة لاريات لكل منا، ثم نقف في طابور منتظم ننتظر القطار الذي يشبه التلفريك والذي سيحملنا إلى أعلى الجبل؛ حيث يوجد المتنزه على ارتفاع حوالي 900 متر! يأتي القطار ليحملنا وقلوبنا مضطربة كاضطراب قلب متهمٍ يساق إلى المقصلة، ذلك أن القطار كان يصعد بشكلٍ رأسي وكأنه يصعد إلى الفضاء، وأي توقف أو انقطاع لسلكٍ معين كفيلٌ بأن يهوي بنا من علوٍ شاهقٍ كفيلٍ بتحويلنا إلى "كفتةٍ"، لكن الله ستر، ووصلنا أخيراً إلى قمة الجبل؛ حيث أجمل مكان يُمكن أن تزوره في المدينة، وحيث ألطف نسمة هواء يمكن أن تدغدغ مشاعرك خاصة لو زرت المدينة خلال فترة الصيف.

وخلال تجوالنا في المكان الذي أنشئ عام 1905، اكتشفنا أنه متعدد المعالم والأغراض والأنشطة، فهو مدينة ملاهي تضم العديد من المناشط الترفيهية المختلفة للأطفال من مدينةٍ مائية، وبيوت رعب، ومجسمات لحيوانات منقرضة، وألعابٍ كهربائية...وغيرها من الألعاب المختلفة، وهو في ذات الوقت حديقة طبيعية مترامية الأطراف، تحتوي على أماكن للمشي، وأخرى للجلوس والتأمل، وثالثة للعشاق والمحبين الذين لا يجد بعضهم ارتياحاً في التعبير عن مشاعرهم سوى في حضرة الجميع وكأنهم يقولوا لمن حولهم: اشهدوا أننا عشاق!! يضم المتنزه كذلك مناظير موزعة على السور المحيط به، تعمل من خلال وضع عملةٍ معدنية في فتحة مخصصة لذلك، ويمكن من خلالها استكشاف معالم المدينة التي يمكن مشاهدتها وكأنها لوحةٌ واحدة من هذا الارتفاع! كما يتوسطه برج عالِ الارتفاع يستخدم لأغراض الاتصالات ويعد من معالم المدينة لارتفاعه الشاهق، ويضم مبنى ضخما يحتوي على عدة شرفات، وبه مطعم ذو إطلالة رائعة، عدا المقاهي العديدة المتناثرة في أرجاء المتنزه.

كان من بين المناظر التي شدت انتباهي وأنا أكتشف المدينة من خلال المنظار المقرب المثبت على سور المتنزه تلك الكاتدرائية الضخمة التي تتوسط المدينة بقبتها الذهبية الجميلة، كنت قد رأيت خلال جولاتي السابقة عدداً من الكنائس المختلفة لكنها جميعاً كانت دون هذه الكنيسة في الحجم أو الشكل، أفتح العم جوجل للبحث عن معلوماتٍ أوفى عنها كما أفعل في كل مرة أستكشف فيه معلماً لم يسبق لي زيارته مستغلاً توافر (الواي فاي) المجاني داخل المتنزه؛ حيث لم أكن قد استخرجت شريحة هاتف بعد، ليجيبني العم جوجل بأنها كاتدرائية الثالوث المقدس، أو "تسمندا ساميبا"، والتي تعد الصرح الديني الأكبر في جورجيا قاطبة، بل إنها تعد من أبرز الكنائس الأرثوذكسية على مستوى العالم.

ولأنني هاوٍ للتاريخ، مغرمٌ بدروسه كغرامِ قيسٍ بليلى، ولأنه كان تخصصي الرئيس طوال سنوات طويلةٍ من دراستي كان لزاماً علي زيارتها، وهاتفٌ خفي ينبعث بصوتِ د. محمد أمين أستاذي الذي درست على يديه تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، يحفزني كي أذهب وإلا خَصَم شيئاً من أعمال السنة! نتوجه إلى الكنيسة التي بنيت على ضفة نهر كورا والتي تنتصف المدينة لنقف أمام باحتها الكبيرة؛ حيث النوافير المتوزعة على يمين ويسار الأدراج التي تأخذك لبوابة المبنى، وحيث المساحة الخضراء التي تغطي تلك الباحة، وحيث السياح يتوزعون لأخذ السيلفي بعيداً عن التاريخ وهمومه!  

أقفُ الآن وسط الكنيسة بعد أن تخطيت الأدراج العديدة التي توصل إلى المبنى، ها هي المنمنمات والرسومات واللوحات الزيتية التي تصور السيد المسيح وأمه العذراء والقديسين تتوزع على جدران الكنيسة كما هي العادة في كافة كنائس الشرق! أتأمل السقف فأتخيل مايكل أنجلو يرسم لوحة العشاء الأخير، ثمة راهبٍ أو أبٍ يمر بجواري ليشعل بعض الشموع هنا وهناك فتتداعى أمامي كل القصص التي قرأتها عن عصور أوروبا الوسطى، وعن هجمات البربر، وعن سطوة الكنيسة، وصكوك الغفران، وغيرها من ملامح ذلك العصر.

آخذ جولة سريعة في أقسام الكنيسة الخمسة، وأمر على مصلى الملائكة، ويوحنا المعمدان، ثم أتذكر ملل رفاقي في الخارج تاركين هذا الترف الفكري، وحصة التاريخ هذه لأمثالي، لنستكمل جولة أخرى من جولاتنا وسط أجواء من البرودة القارسة في ربوع مدينة الدفء.

Mh.oraimi@hotmail.com