الطموح يعزز المشاعر الوطنية لا يلغيها

 

حمد بن سالم العلوي

يخطئ الذي يُنكر التَّقدم الكبير الذي سارت عليه البلاد، فعُمان قبل عام 1970م، كانت لا تملك شيئاً من الذي نراه اليوم، ونعيشه واقعاً ملموساً يهول السامع وصفه، ومن عاش تلك الحقبة قبل سني النهضة لا يزال يعيش مذهولاً مما طرأ من تغير وتغير في طول البلاد وعرضها، وجيل ما بعد السبعين لا يستطيع أن يتصور كيف كان يعيش الناس بدون الوسائل العصرية، فلا طبيب ولا كهرباء ولا تعليم ولا طرق ولا سيارات ولا هاتف.

إذن نحن في نعمة كبيرة إذا قارنا بين عُمان الأمس وعُمان اليوم، ورغم هذا التطور الرائع الذي صنعته نهضة عُمانية مباركة، صاغها قائد فذ حكيم جلالة السُلطان قابوس بن سعيد المُعظم - أيده الله بنصره - فإنَّ هذا الإنجاز المُعجزة وأسميه كذلك، لأنَّ الدخل القومي كان ضئيلاً بمعنى الكلمة إذا ما قارنه بدخل دول الجوار نخرج السعودية من هذه المُقارنة لأن دخلها القومي يفوق دول المنطقة مجتمعة، إذن عُمان التي أريد لها أن تنتقل من تحت خط الصفر خدمات، وليس ذلك فحسب، فقد ورثت مشاكل صعبة وخطيرة عمرها خمس سنوات سبقت تولي جلالته الحكم، إذن التحديات كانت كثيرة ومتشعبة، وسبب مُعظمها دول الجوار.

ولكن السلطنة التي ورثت إرثاً عظيماً لأعظم إمبراطورية عربية عرفها التاريخ، لم ترد على جيرانها بالمثل وإنما فعلت ما يفعله العظماء بعدلهم مع الجوار، وهو العفو وعدم التشفي أو الأخذ بالثأر، فكان لها خط مستقيم يعرفه الجميع، ألا وهو (صفر) مشاكل، بل وعلاقات صداقة مع العالم كافة، وها نحن اليوم يشار إلينا بالبنان، بأن عُمان دار الأمن والعدل والاحترام، ويشار إلى سلطانها بأنَّه سلطان المحبة والسلام، إذن من ينجح في الأصعب ينظر إليه على أنه حتماً سينجح فيما هو أقل من ذلك شأناً، ألا وهو إطعام أنفسنا من عمل أيدينا، وأن نخط الطريق لاقتصاد قوي، وتنمية واعدة في كل المجالات.

وإن عُمان هي البلد الذي يسكن وسط أحضان طبيعة جذابة ومتنوعة، وشعب حميم ودود للبشرية، ومحترم للإنسانية، وقد كان مُحباً للعمل والتطوير، قبل أن ينظر إلى الجوار القريب، ويبتلى بنظرية المقارنة والحياة الريعية، يُضاف إلى ذلك سوء التخطيط، وسوء التعليم والتدريب حتى على رأس العمل، فالقليل جداً نجح في شق طريقه، والغالبية منهم ظلت تنتظر الأخذ بيدها إلى الطريق السوي، ولو أنَّ الملايين التي دفعت في صناديق الدعم كسند ورفد، أنشئت بها شركات مساهمة، وأخذت بأيدي الناس إلى العمل، لأسهمت في دوران عجلة الاقتصاد الوطني، فكان سهلاً عليهم أن يشقوا طرقهم في الحياة، وشق مسارات كثيرة ومتشعبة، كالزراعة وصيد الأسماك، والتعدين والسياحة والنجارة والحدادة والتصنيع بكافة أحجامه، ولكل مستلزمات واحتياجات الحياة، ولكن بعض المسؤولين يتنادون فيما بينهم، على إحكام العقد على المواطن والتشديد عليه، ويتهمونه بعدم التَّعاون، أو حتى يشككون في وطنيته، وهنا تتسع الفجوة بين الحكومة والمواطن.

إذن مهما عقدنا من مؤتمرات، أو ندوات لن نكسب التغيير المأمول، وفي الأسبوع الماضي تابع العمانيون بشغف ما قاله الدكتور مهاتير محمد "محاضير محمد" الرجل الذي صنع المعجزة الاقتصادية في ماليزيا، خلال فترة وجيزة تقدر بـ 22 عاماً، فقد عمل ذلك "هو" لأنَّه شخصياً كان يُريد أن يفعل إنجازاً مهماً لوطنه، أما أن تُعْطَي التوجيهات لشخص آخر، فإنّه لن يفعل الإنجاز المطلوب منه، فإما إنه غير مقتنع به، أو لأنه عاجز عن فهمه من الأساس، ففاقد الشيء لا يُعطيه، فتلك إذن عقدة العقد التي لم نجد لها حلاً في بلدنا، وهنا أذكِّر بالتوجيهات السامية التي كان يُدلي بها جلالة السلطان قابوس المُعظم - حفظه الله ورعاه - بين وقت وآخر، وحسب المناسبة الماثلة أمامه، وبعضها كانت في ندوات تبدو عملية وجادة، وكانت تقام في كنف المُخيمات السلطانية أثناء الجولات السامية، وكان - أعزه الله - يُتابعها خطوة بخطوة، ويبارك توصياتها، ولكن بمجرد رفع الجلسة الختامية، يأتي من يختم عليها بالحفظ، ويكبو النشاط وتخمد الهمة.

إنَّ العبرة ليست في من يفصّل الثوب الجديد، ولكن العبرة في من يلبسه، فهل يلبسه بطريقة صحيحة، أم يلبسه بطريقة خاطئة، وحتى دون أن ينظف جسمه من الأدران، فعندئذ يشوه الملبس ويضعف هندامه، وقد ينقل إليه أدرانه، فيُبلى الثوب الجديد قبل أوانه، هكذا حال خططنا ونوايانا الحسنة السليمة، تذهب أدراج الرياح، فبالأمس كان هناك مقطع فيديو يتداول، حول حديث جلالته - أيده الله - في شأن الزراعة، والتحذير من ترك الخطام على الغارب للوافد، وقد وقع الذي سبق وحذّر منه جلالته، ورُدّت منتجاتنا من الحدود، ذلك بسبب بُعد المعنيين عن القيام بمسؤولياتهم، وغير ذلك الكثير والكثير من التوجيهات والتحذيرات، ولكن أين هي اليوم فإنها تذهب طي النسيان، فهذا مقطع الفيديو مكان لا يظهر وينتشر اليوم، وقد مرَّت عليه سنوات طويلة، ولكنه أُظهر على إثر المعلومات وقد تكون شائعات ولكنها انتشرت حول المخلفات المبيدية، وربّ ضارة نافعة، فعسى هذا الحدث أن يدفع بالمعنيين إلى مراجعة منظومة الزراعة المُهملة، كما يقول واقع الحال، وهذا مثال على أشياء كثيرة مشابهة.

وإذا رجعنا إلى حقبة السبعينيات، فإننا نتذكر يوم جمع حضرة صاحب الجلالة - أبقاه الله - كبار موظفي الدولة في قصر الحصن بصلالة، وألقى عليهم خطاباً قاسياً، محدداً الأهداف، وأشهر جملة أتت فيه يومها، قول جلالته:" إنَّ الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذاً أو سُلطة" وغير ذلك من التوجيه الواضح والحاسم، لكن ظلت الاتكالية بانتظار التوجيهات تلو التوجيهات، وهو الأمر الشائع لا بل والسائد، وكأن الدولة تخلو من القوانين والأنظمة، وهذا النهج الذي يتبعه البعض يظنون فيه أنهم يبجلون به جلالة السلطان المعظم، وقد أخالفهم الرأي في نهجهم، فإني أرى فيه إساءة لصاحب الجلالة غير مُباشرة، فهم بذلك يهدمون ما قام به جلالة السلطان من إنشاء دولة المؤسسات، التي سهر عليها عقودا من الزمن لكي تصبح على هذا النحو المتقدم.

ويكفي أن نرى العبرة في المراسيم السلطانية، إذ تُشير الديباجة الأساسية بالقول "وبعد العرض على مجلس عُمان رسمنا بما هو آت" إذن ليس هناك إيحاء على الانفراد بالقرار، ولكن تصرف بعض المسؤولين، يوحي أن كل شيء في البلد يسير بالتعليمات دون القوانين، وهنا مكمن الخطأ رغم أن بعض المسؤولين الناجحين في إدارتهم، إذا لزم الأمر العرض على صاحب الجلالة، فإنهم يحتفظون بالتوجيه لديهم ودون الإشارة إليه، بينما الغالبية الكبرى منهم، إذا استبدل بوابة في حديقة عامة، فإنه ينسب ذلك إلى التوجيهات السامية، وهذا مُجرد مثال في تحجيم عمل ما، وكأنهم يقصدون القول للناس، إننا نذكركم بفضل صاحب الجلالة، وكأن الناس لا يعرفون هذا.