وعّاظ الملوك

عبدالله العجمي

الجهل آفة تؤدّي إلى فساد المجتمع، ويكاد يكون هو السبب الرئيسي الذي تنبثق منه أغلب مشاكل الإنسانيّة في أيّ حضارة، فيقود إلى ضياع وتضعضع واقع الأمم، ويفرز لنا جيلا يعمل بل ربما يجتهد ويثابر ولكن بغير علم؛ لينحدر هذا الجيل -تدريجيّا- إلى تمليك عقله لمن هو أذكى منه.

لا يكفينا أن نعرف الحقيقة بعقولنا، بل لا بدّ لنا أن نعمل من أجل أن تشرق هذه الحقيقة في واقعنا؛ لتتحوّل الأفكار الرّاسخة في عقولنا إلى واقع لا يصمد الجهل أمامه، لأنّ من يستغلّون هذا الجل؛ يستحوذون على ثقة من حولهم؛ سواء من خلال حراكهم العملي، أو لعبهم على الوتر العاطفي، فيقومون بتحريك هذا الجهل في تغذية هذه العاطفة بمفاهيم التّخلّف، ولربما يملؤون فراغا سياسيّا يتوق الناس إلى من يملأه لهم، فيملؤونه ببثّ ما في عقولهم من جهل وتخلّف، ونرى أيضا أنّ صنفا من هؤلاء الجهلة يحيطون أنفسهم بهالة من الرّوحانيّة الزّائفة، لتتحوّل تدريجيّا إلى قداسة ينصاع الناس خلفها فيكتسب الجهل هذه القداسة أيضا نتيجة تقديس المجتمع لهؤلاء الجهلة والانتهازيّين، هذا هو الصّنف الأوّل: صنف العاملين المثابرين ولكن بجهل، والذي بسببهم تنحدر الأمم إلى منزلقات خطيرة تؤدي إلى انحطاطها وفسادها.

أمّا الصّنف الثّاني -وهو الأخطر- فهو صنف العلماء: ممّن عقولهم مملوءة بالعلم والمعرفة، يعرفون الحقّ ومواكبون لحركات تطوّر مجتمعاتهم، لكنّهم -وللأسف- نراهم يقفون مع الباطل، يعيشون معاني العدالة الاجتماعيّة في أذهانهم، ولكن في المقابل مؤيّدون لظلم الظّلمة بأقوالهم وأفعالهم، يدركون أنّ الاستقامة نجاة؛ لكنّهم منحرفون، هم عرفوا الحقّ بفكرهم، ولكن -رغم ذلك- يعيشون مع الشّياطين، وهؤلاء أشدّ خطرا على الإنسان والمجتمع بأكمله، إنّهم: "وعّاظ الملوك" أولئك الذين يطلقون فتاويهم حسب الطلب فيلبسونها حلّة الشّرعيّة والشّريعة أبعد ما تكون عنهم.. يمتلكون من الثّقافة والفكر ما يستطيعون به استقطاب القلوب حولهم، فيتخيّل للتّابع لهم أنّهم إنّما ينطقون عن الله، وأنّهم هم وحدهم من يمثّلون العدالة والإنصاف في هذه الأرض..

تعالوا معي لنجوب على بعض أصنافهم المنتشرة في عصرنا هذا؛ لنُحذِّر منهم. وهم نماذج عدّة، فمنهم من يعمل على تمزيق المجتمعات من خلال إثارة ما يمكن أن يفتّ لحمتها ويربكها ويمزّق وحدتها، فيعملون على إثارة النّعرات وتعميق الخلافات بدل تقريب المسافات وتوحيد الصّفوف، فيشعلون -بفتاويهم وآرائهم- خلافات بين أبناء المجتمع الواحد ليشغلوا أفراده بنزاعات تلهيهم عن كثير من التّحدّيات التي يصادفونها في مجتمعاتهم، فلا يتسنّى لذلك المجتمع التّفرّغ لنهضته ورقيّه، بل يظلّ منشغلا بمثل تلك الخلافات إلى أن يشاء الله فيستفيق المجتمع من غفلته ليعرّيهم على حقيقتهم.

 ومنهم من يحاول جاهدا تبرير فعل الطّغاة والظّلمة، لاعبين على وتر ثقة الناس بهم فيستغلّهم الطّغاة لشرعنة طغيانهم، وهناك أيضا من يعزف على وتر العاطفة، العاطفة المرتكزة على قيم من الجهل والتّخلّف التي هم من قاموا بغرسها في قلوب متّبعيهم، أختم لكم بقاعدة أرساها الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام تكاد تكون مقياسا وفيصلا لمعرفة هذه الأصناف إذ قال: "إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس الملوك وبئس العلماء، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء" فلنحذر من كلّ هذه الأصناف التي ذكرناها وأشباهها ولنبتعد عنهم ولننحاز إلى من يؤّلّف لا إلى من يفرّق كائنا ما كان منهجه ومدرسته التي تخرّج منها؛ فإنّ العاقل خصيم نفسه فلا يبيعنّ أحدكم عقله لأحد.

*رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي