في مقهى الفتوّة 2

محمد العريمي

أقف أخيراً في قلب المشهد الحسيني وخان الخليلي، حيث قلب القاهرة الفاطميّة وحيث يكاد يُختَزل هنا تاريخ مصر بكامله، وحيث يختلط البشر فقيرهم وغنيّهم في تناقضٍ مؤلم؛ هؤلاء من أجل رغيف عيشٍ حاف، أو أملاً في بضعة جنيهات قد يحنّ أحدهم بتركها لهم، أو طلباً لبركة سيّدنا الحسين في تزويج يتيمة أو شفاء مريض بعد أن أوصدت أبواب الأرض في وجوههم، وأولئك لتصريف بعض ما تكدّس من مالٍ قد ينفقونه في شراء تحفة، أو ثمناً لكوب شاي تكفي قيمته لتعديل مزاج روّاد مقهى شعبيّ في حيّ الشرابيّة بأكمله!
 المشهد الحسيني وخان الخليلي حيث العبق الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، وحيث الأزهر الشريف قبلة العلماء والمتعلّمين على مدى قرون طويلة، وحيث مرقد الإمام الحسين، والمحلّات الشرقية التي مازال أصحابها يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث قهوة شعبان التي يصرّ صاحبها على أنّها تأسست عام 1919، والدهان القديم حيث أحلى كباب ونيفه، والعهد الجديد بكوارعه وفتّته وورق عنبه. المشهد الحسيني حيث فرحات الأزهر وحمامه المحشي الذي تبكي قبل أن تطعمه وتبكي مرة أخرى بعدها من لذّته وطعامته، وحيث طعميّة الحلّوجي، وبسيمة عمّ محمد، ومهلّبيّة المالكي وقشدته التي لا مثيل لها. وحيث المكتبة التوفيقيّة، ودار التراث العربي، ودار التأليف، ومكتبة الثقافة العربية، والمكتبة الإسلاميّة وسلسلة من المكتبات التي ساهمت في حفظ التراث العربيّ والإسلاميّ.
متجاهلاً الدعوات التي توالت عليّ من صبيان المقاهي المواجهة لساحة الحرم للجلوس في مقاهيهم خاصّة وأنّهم لا يتقاضون رواتب معلومة بل يترزّقون (التبس)، والبقشيش، ومدى قدرتهم على (تهليب) الزبائن ببيع المشروبات بسعر أعلى من المتفق عليه مع صاحب المقهى، أكمل طريقي إلى مقهى الفيشاوي الذي اخترته لقضاء الساعة القادمة فيه وسط أزقة ضيقة زيّنت جنباتها بقطع ديكور شاهدة على حضارة مصر الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ، لأسباب من بينها عراقته، وسمعته، وهدوءه وأسعاره الثابتة مقارنة بمقاهي الواجهة، كما أنّ قهوة (نجيب محفوظ) الذي يعد مقهاي المفضّل هنا والذي يبعد أمتاراً بسيطة لا يصلح للجلوس نهاراً بعكس ليله حيث أجواء ألف ليلة وليلة، وحيث العود والقانون والسلطنة، وحيث الكوارع والفتّة بالثوم والممبار، وحيث السحلب الأصلي بمكسراته التي تكاد تقسم أنّها قطفت وحمّصت للتوّ، والشاي الأحمر الذي تكفي نكهته لإنعاش شارعٍ بأكمله يقدمه لك ولدانٌ يلبسون الطربوش، في أباريق من نحاس مذهّبة الجوانب والأطراف!
ها هو المكان أخيراً، زقاقٌ ضيّقٌ اصطفت على جانبيه طاولات وكراسي خشبية امتلأت بعشرات السيّاح الأجانب، وبعضٌ من أبناء البلد. ولوحات خشبيّة عدّة كتب عليها بالأزرق والأبيض والذهبي اسم المقهى الذي أسّسه فهمي الفيشاوي عام 1797 من خلال ركن صغير ما لبث أن توسّع ليضم ثلاث غرفٍ يوماً ما قلّصتها المحافظة بعد ذلك إلى حجمه الحالي، تعرّف بالمكان وكأنه بحاجة إلى من يعرفه أو يسأل عنه بعد أن طغت شهرته أرجاء المعمورة، وسار بذكره الركبان، وقلّد اسمه المقلّدون في كل بقعة يوجد بها مصري، لكن شتّان بين الأصل والنجاتيف!
أختار مكاني على ركن جانبيّ داخل المقهى طلباً لبعض الهدوء، وهرباً من زحام الممر وعبارة "وسّع يا باشا" التي تتكرر 67584 كل دقيقة، و(رزالة) المتسوّلين وعارضي الكتب والحقائب والجلود والمسابح والعطور الرديئة وكل ما تنتجه مصانع (بير السلّم) الذين يتميّزون بثقل دم ولا خرتيت هنديّ، وإلحاحهم الشديد ولا إلحاح بخيل يطلب ماله!
 أتأمّل المكان بكل ما يحتويه من تُحف وآثار وكأنه مُتحف شرقيّ. كان المقهى يجسّد بشكل حقيقيّ حضارة المكان الذي أقيم عليه، وكأنّه مصبّ لكل ما تنتجه مصانع وورش ومحلات خان الخليلي والموسكي والغوريّة، هناك أربعة أبواب مفتوحة، وأقواس ملوّنة بالأبيض والبنّي تفصل أركان المقهى عن بعضها، ومشربيّات من خشب أسود كأنّه المسك، وأرابيسك ومشغولات خشبيّة تنمّ عن مدى الرقيّ الذي وصل إليه فنّ عمارة الخشب في مصر، وفوانيس ونجف وثريّات ضخمة يبدو أنها كانت يوماً ما تزيّن قصر أمير تركيّ، في الرفّ علّقت أوانٍ قديمة يبدو أنّها كانت تستعمل في المقهى يوماً ما، في حين تزيّن المقهى من جوانبه مرايا بلجيكيّة كبيرة يقال إنّ الحاج فهمي حصل عليها من القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، ويقال كذلك إنّ الحاج كان يراقب من خلالها عماله! بينما توزّعت على جدرانه عدد من الصور لصاحب المقهى ولشخصيات عديدة من سياسيين وفنّانين وأدباء فهذه صورة الملك فاروق، وتلك أخرى لنجيب محفوظ أحد أشهر روّاد المقهى والذي خلّده في رواياته الشهيرة، وثالثة لفريد الأطرش، ورابعة وخامسة وعاشرة لفريد شوقي، ومحمد فوزي، وكمال الشناوي، وعادل إمام، وغيرهم، وهناك صورة كبيرة للحاج فهمي الفيشاوي وهو يمتطي حصانه. أتخيّل الحاج بجلبابه الصعيديّ أزرق اللون وعباءته الحريريّة، وعمامته الكشميريّة، وعصاه الأبنوسيّة التي تكفي ضربة منها لتخدير بغلٍ أستراليّ ضخم، قادماً يوزّع سلاماته على كل من يصادفه في الأزقّة المجاورة بعد أن أنهى (خناقة) بين بعض الفتوّات، أو استرجع حق عرب لأحدهم، كيف لا وهو الذي كان يعد من فتوّات القاهرة المعدودين عندما كان مصطلح الفتوّة مرادفاً للرجولة والشجاعة وإغاثة الملهوف، وعندما كان الفتوّة يقع على عاتقه حماية الحارة، وإرجاع المظالم، وإشاعة الأمن قبل أن تتبدّل الأحوال وتتغيّر الأزمان، ويحدث انقلاب في منظومة القيم في المجتمع تفضي إلى ظهور مصطلحات غريبة على المجتمع كالبلطجة التي تحل محل الفتْوَنة!!
يأتيني الشاي في إبريقٍ زجاجيّ أزرقٍ داكن موضوع على صينيّة مذهّبة كعلامة جودة تميّز المقهى عن غيره، بينما وضع السكّر وأوراق النعناع في أكواب بيضاء. أصبّ لنفسي بعضاً منه وقد تداعت أمامي رزمة من الذكريات، ذكريات رحلة غزّة وزيارتي الأولى إلى المكان، ذكريات زيارات أخرى متوالية كتوالي الهموم على قلب مهاجرٍ سوريّ. ذكريات رفاق وأصحاب بقي بعضهم وغاب أكثرهم وسط طوفان الحياة الجارف. ولكن تلك حكاية أخرى.