ويحكم .. قتلتم فلذة كبدي

عائشة البلوشية

حملته وليدًا بين ذراعي وهو يُطلق صرخاته الأولى في هذه الدُّنيا، وبعد أن أذن أبوه وكبَّر في أُذنيه سلَّموني إياه ﻷضمُه حامدة الله على هذا الصبي الجميل، ركضت الأيام سراعًا ﻷراه يرتع ويلعب مع إخوته وأقاربه، نما كالبُرعم الصَّغير وكنت أسقيه رحيق أجفاني، كبر ولدي الجميل الخلوق، ودعائي له وﻹخوته بالحفظ والتًّوفيق لا يُفارق لساني، فتخرَّج من دبلوم التعليم العام، وبفضل من المولى عزَّ وجلَّ حُظِي بنسبة تؤهله لدخول تخصص الهندسة في إحدى كليات السلطنة الحبيبة التي لم يرغب في فراقها، وتمر الليالي حيث كان يدخل عليَّ كل يوم بعد انتهاء مُحاضراته، وصخبه اللذيذ يُصاحبه، فيُمازح هذا ويُداعب ذاك، وله الكثير من الصُحب الذين يُحبهم ويُحبونه لدماثة خُلقه، لا أقول هذا ﻷنَّه ولدي، بل ﻷنَّ الجميع يشهد له بذلك، ملأ البيت حياةً وهو قريبٌ من كل إخوته وأخواته، وبدأ ذلك الطفل يبتعد عنِّي شيئًا فشيئًا، وقد كُنت أُحدِّث نفسي بالشوق إلى ذلك الشغب اللذيذ، واللهو البريء الذي يُحيطني به، وأصبر نفسي بالقول إنَّ الدراسة الجامعية تختلف، وربما هو مُنشغل بها ومنهك في الاستذكار والتحضير، وفجأة ودون سابق إنذار، جاءتني الطَّامة الكُبرى، أنَّ ولدي فلذة كبدي تمَّ نقله إلى المستشفى لتعرُّضه لحادث بسيط، وبالأمل المجنون الذي يحفر سطوره في داخلي أمسك بهاتفي وأطلب رقمه النَّقال، ولكن الخط مُغلق، وفي دقائق مرَّت علينا أنا ووالده كدهور من الحزن والقلق والتَّوتر، وصلنا إلى المستشفى لنجده تحت رحمة الله وموصول بجميع أنواع الأجهزة، ولدي عبارة عن جُثة تحيَّا بالأجهزة الكثيرة، يا رب أي أم ثكلى أنا، وطفلي الشاب أمامي يُنازع الحياة، فأخذ زوجي يربت على كتفي بحنان بالغ، ويُذكرني بالله تعالى وبقدره المحتوم ويعلم الله أنَّ حاله ليست بأيسر مِنّي، وبعد أن هدأ روعنا طلبنا الطبيب ليشرح لنا حالة ولدنا، وخرجنا من مكتبه والذهول يكسو كل خلية في جسدينا، ولم أنتبه إلى نفسي إلا وأنا أُردد بنوح مرير: (حسبنا الله ونعم الوكيل)...

ما الذي اقترفه ولدي من جريرة في حقكم حتى تقتلوه أمامي؟!

بأيّ راحة بال تضعون رؤوسكم على الوسائد وتغطون في نومٍ عميقٍ؟

بل من أي صخر نُحتت قلوبكم لتقسو بهذا التحجر العجيب على مُراهق في مُقتبل العمر؟

بل أجيبوا نوحي على ولدي وأعطوني صبر الجبال على لظى الشمس وقر الشتاء ﻷتحمل صدمتين في آنٍ واحد، صدمة اكتشاف أن ابني كان مُتعاطيًا، والصدمة الأخرى أنَّه بعد أن أراد الإقلاع وتوقف لمدة تربو على الشهرين لم تتحمل أعضاؤه فخرَّ جسده المسكين، وها هو ميت أمامي، جثة صامتة مغسول ذنبوها بصدق نية توبته، ولكنكم وﻷجل المال تقمصتم مراتب الشياطين وأرتديتم ثياب الحملان وأنتم تروجون بحلو ألسنتكم بضاعتكم الملعونة، أبشع استغلال هو ذلك الاستغلال الذي يستبيح براءة القلوب، ويغرر ببياض بضاعته بياض النفوس، ويستبيحها على حين غرة من ولي أمر، ليكسب من جيب مُراهق حفنة من نقود، ومن عافيته الشيء الكثير، ثم وبكل إجرام الوجود سلبتم حياته، أرى أصحابه يدورون كأفراخ الحمام التائهة والمُفاجأة تظلهم، عيونهم كالدَّم لشدة بكائهم على زميل دراستهم، فهم جميعًا ما بين الثامنة عشرة والعشرين عاماً، لم يختبروا من آلام الدنيا إلا النزر البسيط، وها هم اليوم يفجعون في صاحبهم، والفجيعة الأشد والأقسى هي ما علموه، يتساءلون فيما بينهم: كيف؟ ومتى؟ ومن؟.......... علامات استفهام ظلت مُعلقة في أسقف ردهات المُستشفى لم يجدوا ولا أجد لها إجابة، الإجابة الوحيدة هي رحيله المُباغت من بيننا، انسل بلا ضجيج، رحل بلا وداع، خبا ذلك الضوء، وانطفأت شمعة الحياة الجميلة من منزلي، فألهمني الصبر يا الله، فأنت القادر على كل شيء...

إخوتي وأخواتي أولياء الأُمور.. بكيت هذا الشاب اليافع رغم أنني لا أعرفه، لكنني أحسست بكل خلجة من خلجات أُمه المكلومة بفراقه، فبكيته ﻷنّه إحدى شموع الأمل التي يجب أن تنير نهضة هذه البلاد بعد عدة سنوات، سنهرم نحن وسيأتون هم ليستمروا في دفع عجلة التقدم والبناء، لذا يجب ألا تتسع الفجوة بيننا، يجب ألا نتذمر من سلوكياتهم وتصرفاتهم، بل يجب أن نحرص وبشدة على الجلوس إليهم ومُحادثتهم ومُناقشتهم، بجب أن نتفقدهم بالمُهاتفة أو المُراسلة بحنو واضح، يجب ألا نرميهم بأيدينا فرائس سائغة لهؤلاء المتلقفين، فكم من مُتعاطٍ أو مُدمن بدأت رحلته بسبب مشكلة بسيطة جدًا لم يجد الأذن الواعية التي يبثها شكواه، تقربوا منهم حذروهم من أخذ أيّ دواء عند التَّعرض لصداع أو عارض بسيط، حتى من الصديق، تفقدوا أذرعهم بين الفينة والأخرى، وتفطنوا لتلك البقع الزرقاء أو الداكنة فوق الأوردة، إننا في زمان تأتينا فيه الفتن كقطع الليل المُظلم، فلنعزز حب الله في قُلوبهم، ولنغرس التَّعلق به سبحانه وتعالى في نفوسهم، ﻷنَّها لعمري هي المُنجية، وهي الطريقة التي تبني حول أولادنا درعاً فولاذيًا ضد سدنة شياطين الإنس والجن...

ختامًا.. اللهم إني أسألك التوفيق ﻷبنائنا والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، واسعدنا ببرهم في حيواتنا وبعد موتنا، وابعدهم عن مسالك الشيطان ودروبه إنك سميع مجيب.

_____________________________________

توقيع: "لا أخشى الموت فهو محتوم، ولكنني أخشى الرحيل بلا أثر"

شمس التبريزي.