"بائعُ الجَمال"

 

 

محمد العريمي

 

قبل خمسة أعوام من الآن، وعند انتقالي إلى المؤسسة التي أعمل بها حالياً كان من ضمن ما شدّني من بين أشياء كثيرة جذبتني بها وأعطتني تصوراً مبدئياً عن أيام جميلة قادمة تنتظرني بها، وجود لوحات معلّقة على جدران وممرّات المؤسّسة ومكاتبها وزواياها المختلفة. لوحات كانت تحمل صوراً وعبارات تبعث التفاؤل، وتغذّي الأمل في الأرواح، ويعرّف عديدٌ منها بملامح عمانيّة تاريخيّة واجتماعيّة وسياحيّة مختلفة. الأمر الآخر الذي أثار انتباهي هو أن عدداً من هذه اللوحات كانت تحمل اسم شخص يدعى سيف بن ناصر الرواحي!

 بعدها بفترة عرضت عليّ إحدى طالباتي بالكليّة التي أقوم بالتدريس المسائي فيها كتاباً بعنوان "العزوة في فنجا" كي يكون مشروعاً لبحثها الفصليّ، ومرّة أخرى يتردد اسم سيف الرواحي حيث كان هو مؤلّف الكتاب! وبدأ العقل الباطن في محاولات التذكّر والربط والتخيّل، وطرح السؤال الذي سيستمر لفترة قادمة بعدها: من هو سيف بن ناصر الرواحي؟!

 تشاء إرادة الله بعدها أن ترحمني من تساؤلي ذاك بعد أن انتقل هذا (السّيف) إلى نفس المؤسسة كزميل عمل، لذا بدأت محاولاتي السريعة في التعرّف عليه عن قرب، وأدركت منذ الوهلة الأولى أنني أعرف هذا الشخص منذ سنوات عديدة على الرغم من أنها المرة الأولى التي يقع بصري عليه، ذلك أن ابتسامته التي لا تكاد تفارق محيّاه، وروحه المرحة، وضحكته المميّزة وكأنها سيمفونيّة عاشرة نسي بيتهوفن توثيقها كانت جواز مرورٍ سريعٍ إلى قلوب المحيطين به، واكتشفت بعدها بفترة أن هذا (الانسان) يكاد يرتبط بعلاقات صداقة مع كل سكّان الأرض فلا تكاد سيرته تأتي في أي محفل إلا وأجد الجميع يعرفه، ولا أكاد كذلك أسأله عن أيّ إنسيّ او (جنّي) إلا ويفاجئني بمعرفته به! أي قلبٍ هذا الذي يحتوي العالم بأسره بين أوردته! 

  وخلال خمسة أعوام هي عمر زمالتنا وصداقتنا، كان مكتبه المنزوي كمعمل رسّام سيرياليّ هو المحطّة الأولى التي يبدأ منها يومي، وكثيرة هي أكواب القفشات وفناجين المداعبات التي كنا نرتشفها صبح كل يوم لمست خلالها مدى عشقه للكاميرا، وأدركت كذلك الجهد الكبير الذي يبذله في سبيل حبّه لفنّه، وكنت أتابع من خلال رسائله الواتسابيّة كل جمعة رحلاته المكّوكيّة في هذه الولاية أو تلك بحثاً عن مشاهد يوثّق من خلالها بعضاً مما يتمتع به هذا الوطن العظيم من مكنونات وعناوين متفرّدة في التميّز والإبداع، وكنت أسأل نفسي في كل مرة: ألا توجد ارتباطات تحول بينه وبين فنّه ورحلاته وبحثه عن اللقطة أيّاً كان موقعها؟! ثم أدركت أنّ العاشق لا تحول بينه وبين محبوبته موانع أو عقبات، فما بالكم لو كانت تلك المحبوبة لوحة رائعة صنعتها التقاطة جميلة من عدسة بشريّة تعوّدت على انتقاء الجمال.. واقتنائه!

وعندما أهداني (أبو ناصر) كتابه الأخير (محافظة الوسطى.. الحياة والطبيعة) الذي سيدشّن مساء اليوم الثلاثاء أدركت أنني أمام عملٍ منفرد، فهو ليس بالكتاب العاديّ بقدر ما هو سيمفونيّة من الألحان الجميلة، أو باقة من الورود النضرة، فالكتاب باذخٌ بمعلوماته، زاهٍ بصوره، أنيقٌ بإخراجه، مثيرٌ بقضاياه التي يطرحها!

يفسّر الرواحي أسباب اشتغاله بكتابه في مقدّمته بقوله "أحاول في هذا الكتاب أن أنقل جزءاً من خيال الواقع وجمال الحقيقة الذي رأيته رأي العين متجسّداً في محافظة الوسطى. إنّ التنوّع البيئي ما بين سهلٍ وجبلٍ وبحرٍ وصحراء، وتنوّعٍ في الموروث التقليديّ والفنون الشعبيّة والصناعات اليدويّة يغدو سمةً مميّزةً لهذه المحافظة، يدفع الإنسان إلى البحث عن غواية المجهول فيقع أسير هذه الطبيعة، وهو ما دفعني إلى أن أكتب كتابي مُضَمّناً ما التقطته عدستي، وما جادت به مصادر البحث المختلفة"، ولعمري فإن المؤلف محقٌ فيما ذهب إليه، ومعذورٌ إن تولّع في حبّ فاتنة كالوسطى، فمن ذا الذي لا يعشقها من أول نظرة فما بالكم بمن عاش بها بضعة سنوات من عمره!

يضمّ الكتاب الذي يعدّ الثالث في سلسلة إصدارات المؤلف بعد كتابيّ (العزوة في فنجا)، و(روعة الأمكنة) بين دفّتيه أحد عشر فصلاً، توزّعت على 240 صفحة من الحجم الكبير تناول الأول جواهر الوسطى الأربعة هيما ومحوت والدقم والجازر، وسلّط الثاني الضوء على الطبيعة الجيولوجية للمحافظة ومكامن أسرارها عبر الزمان، بينما تحدّث الثالث عن الحقف وبدايات الإنسان القديم، وركّز الرابع على النباتات والأشجار التي تتميز بها المحافظة وقصّة تكوين الطبيعة، بينما أخذنا الفصل الخامس في جولة بين أرجاء محميّة الكائنات الحيّة والفطريّة حيث يكون للطبيعة معنى، وغاص بنا السادس في أعماق البيئة البحريّة وأسرارها الدفينة، وعرض السابع والثامن لتراث وأصالة أبناء المحافظة من خلال أبرز المهن التقليديّة والصناعات الحرفيّة، والفنون العمانيّة المغنّاة، بينما نقلنا الفصل التاسع إلى المستقبل من خلال الحديث عن منطقة الدقم الاقتصاديّة ذلك الرافد الاقتصاديّ الواعد، وتناول العاشر كنوز الطبيعة في باطن أرض الوسطى من خلال الحديث عن الذهب الأسود، ومفجّر التنمية في السلطنة والخليج بشكل عام، وعاد بنا الفصل الحادي عشر والأخير إلى الماضي من خلال تجوالنا مع الرحّالة الذين زاروا المحافظة وأرّخوا لها، ودوّنوا ملاحظاتهم المختلفة عنها أمثال برترام توماس، وويلفرد ثيسجر، وإدوارد هندرسون وغيرهم.

إنّ المتأمّل لهذا (السِّفر) سيدرك مدى الجهد الكبير الذي بذله الباحث في سبيل إعداده، وهو جهد مكمّل لجهود سابقة وحاليّة مازال الباحث يقوم بها في مجال التعريف بالمعالم العمانيّة المتنوّعة، جهد بدأ كحلم ثمّ تحوّل إلى واقع متاح، وذلك من خلال المعارض الشخصيّة والعامّة، والمطبوعات التوثيقيّة، والبرامج الإعلاميّة المرئيّة والمسموعة، والاشراف على عدّة صفحات فنيّة متخصّصة في مجال التصوير الفوتوغرافي بالصحف والمجلات المحليّة إضافة إلى صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن أن نعدّها معارض مصغّرة لإبداعات هذا الفنّان الجميل.

كما أنّ مساحات الإبهار في هذا الكتاب واسعة، فهو لم يكتف بعرض الصور كما يفعل البعض، بل نقلنا في سياحة شاملة تعرفنا من خلالها على أبرز مكنونات الجمال في هذه المحافظة الواعدة، وطاف بنا في تجوال سهل وممتنع بين محطّات جيولوجيّة وتاريخيّة وجغرافيّة وفلكلوريّة شاملة، ثم نقلنا بعدها في قطار المستقبل الواعد لنستشرف مستقبل المحافظة، فكأننا في بستان مليء بالورود اليانعة، وكأننا فراشات تتقافز بين هذه الوردة وتلك، نشمّ عبيرها ونلثم شذاها. فهو كما وصفه الكاتب والصحفي والناشر محمد بن سيف الرحبي في قراءته للكتاب "يختار اللغة الأصعب حينما يتحدّث مع عدسته، فالصورة التي هي ابنة المدينة لا تشبه تلك الساكنة بين رمال الصحراء، خلال تلالها الغامضة، ويجازف بالوقت ترقّباً أن يراه في عينيْ مهاة يسكب في عينها قصيدته فتكون "عين المها" بين حافّة اللحظة ومهارة الاقتناص لصورة يضعها المصوّر في سيرته الذاتيّة".

إنّ سيف الرواحي ليس مجرّد ناقل لصوره، بل هو بائعٌ شاطرٌ للجمال. أنا منحاز لهذا الفنّان وفخور به، وقد يكون مهمّاً لـه أن تحبّوا هذا الكتاب أو تعجبوا به ولكنّه أمر قد لا يهمّني كثيراً. الذي يهمّني أكثر هو أن تقتنوه!