وبقيت لي آية...!

 

 

عائشة البلوشيَّة

 

كُنت أنتظر اتصالاً يسمح لي بالدخول إلى إحدى المؤسسات الصحية، وبينما أنا على تلك الحال، طفقت أتابع ذلك المشهد بشغف؛ حيث جلست تلك المسنة -ذات الشعر الأبيض كبياض القطن- القرفصاء، وظلت عيناي معلقتين على ذلك الرصيف الذي تفترشه بساريها الرث، وإلى جوارها ينكدس كيس مملوء من القماش المهترئ، وإذ بشخص يمر على تلك المسنة ليناولها عدة أكياس مصنوعة من البلاستيك، وبها بعض الطعام، وﻷنه مرَّ على العديد من القابعين على عجلات صدئة أو كراس مدولبة، فقد استنتجت أنه أحد المحسنين الكُثر الذين يستغلون المناطق المحيطة بالمزارات الدينية أو الأضرحة التي يقصدها العُبَّاد والمريدون، فيأتون لتوزيع الصدقات والأطعمة للفقراء والمعوزين الذين يقصدون ذات الجهة للحصول على لقمة طعام، فأكبرت في ذلك المحسن أنه وزع أكياس متنوعة على كل من استطاع أن يوصل الطعام إليه، وﻷنني ما زلت أقبع في المركبة، تمكَّنت من ملاحظة الوجبة التي كانت عبارة عن كيس من العدس مخلوط ببعض من قطع الدجاج، وأخرى من البطاطا وثالثة تحتوي على خبزتين، ورابعة بها حبات من العنب الأخضر، انكبت تلك العجوز وظهرها المنحني يشكو صروف الزمان على أكياس الطعام، وبدأت تأكل وكأنها لم تجد الطعام منذ دهر، وإذ بهرتين تلوذان بها، وبكل حنان الوجود أخذت قطعتين من الدجاج ووضعت قطعة واحدة أمام كل منهما، ثم نظرت بداخله لتجده قد فرغ من الطعام، ولكنها لم تأبه بذلك، بل نهضت بكل تثاقل لتحضر ماء، ووضعته لهما لتشربا، ثم شَرَعت في تناول حبَّات العنب، سرحت بعيدا قبل أن يرن هاتفي ليخرجني من ذلك الجو المشاعري العظيم؛ فبالرغم من العدد القليل لقطع الدجاج الصغيرة في ذلك الكيس، إلا أنَّها أحسَّت بقرصات الجوع الذي تعانيه تلكما الهرتين، فاقتسمت فضل الله معهما، فكان درسا وأيما درس؛ ﻷنني تذكرت الآية 9 من سورة الحشر: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، الإنسانية والإحساس بالأرواح الأخرى هو ما حرك أنبل معاني الإحسان في تلك العجوز المسنة؛ فحقها على من أطعمها أن تطعم من سألها وإن كان بطنها لم يكتف من تلك اللقيمات البسيطة، والأجمل من هذا كله أنَّ ابتسامتها الصادقة كانت تنفحها لكل مار على ذلك الرصيف، وسعادة طافحة تكاد تسكبها على المارين والمريدين لذلك المزار.

كلنا تابع بقلوب يملؤها الإيمان بقضاء الله وقدره، وعيون تفيض دمعا يوم الإثنين الماضي، نعي طالبة الهندسة بجامعة السلطان قابوس -المغفور لها بإذن الله تعالى- "آية الهلالية"، رحلتْ آية الطالبة الجامعية المقبلة على الحياة دهسا بعجلات حافلتها التي تحتضنها كل يوم إلى ذلك الصرح التعليمي العملاق، رحلتْ وفي رأسها أحلام وآمال لمستقبل علمي وعملي، لم يدر في خلدها أن نهاية حياتها الفانية ستكون بهذه الكيفية، ولكنه قدرها المحتوم الذي خط في لوحها، وقبل هذه الحادثة المؤلمة عاش المجتمع حادثًا مفجعًا كانت نتيجته وفاة المرحوم المهندس باسم الناصري، وما بَيْن هذين الاثنين مات الكثير حول العالم، أمانات يستردها الله تعالى في لحظة لا يعلم الفرد منا زمانها ولا مكانها ولا كيفيتها، رحيل "آية" علمني آية من آيات الكون، ورغم أنني أعي هذه الحقيقة، إلا أنَّ الطبيعة البشرية تغلب عليَّ في أحايين قليلة، ولكن وفاتها -رغم الألم الذي شاب قلبي عليها- أيقظت بي ذلك الشعور بالاتصال بالسكينة، فما بين الميلاد والموت ليس سوى رحلة قد تطول وقد تقصر، ويبقى الأمر مُعلَّقا بمستوى الرضا الذي يسكن قلوبنا، فلماذا أرغب فيما ليس لي؟ ولِمَ أغضب إذا تأخر شخص ما على موعده الذي حدَّده مُسبقا معي؟، ولم أحزن إذا لم أحقق الحلم الذي رسمته؟ ولم أكتئب إذا لم أستطع إصلاح سلوك شخص قريب مني؟ لماذا لا أتوكل على الله وأبذل قصارى جهدي ﻷن الله قد أحب مني إتقان عملي، ثم أقبل بالنتيجة التي أحصل عليها مهما كانت، فكل تأخير هو من الله خير، وكل بلاء هو عابر يمر في طريق حياتنا لينظر الله تعالى إلى مسلكنا، هل سنُحسن ضيافة هذا العابر أم سنتركه يقضي على آخر معاقل الصبر والجلد في إنسانيتنا، ثم لا يكون لنا إلا ما قسمه الله لنا في هذه الدنيا، وهنا لا أقصد أن نركن إلى الخنوع والاستسلام وعدم المحاولة، بل على العكس تماما؛ فاليأس مرفوض رفضا قطعيا لا نقاش فيه، ولكنني أرجو أن نضيء مصباح السعادة الداخلية في أرجاء أرواحنا، وأن نشرع نوافذ قلوبنا لينتشر ذلك الضوء الروحاني ويشمل جميع الأرواح والمخلوقات حولنا؛ فمهما فعلنا نحن راحلون وتاركون كل شيء خلفنا إلى حيث الخلود الأبدي، وﻷننا لا نعلم التوقيت والبقعة لتلك اللحظة الحاسمة، لنحسن كل قول أو فعل، ولنترك الأثر الجميل الذي نزرع خلاله ذلك المصباح الروحاني ليظل عبيرَ عملنا منتشرا في أثير السماء والأرض، ولنستمتع بكل ثانية في حيواتنا بنشر الرضا والأمل بالله والخلق الحسن، فكما يقال في المسألة الرياضية أن كل شيء تقسمه ينقص، إلا السعادة كلما قسمتها تزداد، ويقيننا عظيم بأن من كال لنا الأذى بأي شكل أو أي قدر، أو من احتال على قلوبنا وعقولنا في يوم ما، سوف لن ينجو بفعلته؛ ﻷنَّ الله تعالى هو جبار السموات والأرضين؛ لذا نمضي في هذه الحياة نعمل ونتعلم وننفع البلاد والعباد، هادفين أن نترك هنا أثرا جميلا وهناك ثوابا جزيلا.

وأخيرا.. رحم الله كلًّا من "باسم" و"آية"، وغفر لهما، وجعل مثويهما رياضًا من الجنة، وكل من مات على ملة الإسلام وفطرة التوحيد.

-----------------------------

التوقيع:

"تركتُ حبيبَ القلبِ لا عن مَلاَلَةٍ.. ولكنْ لِذَنْبٍ أَوْجَبَ الأَخْذَ بالتَّرْكِ

أَرادَ شَرِيكاً في المودَّةِ بَيْنَنَا.. وَإِيمانُ قَلْبي قد نهانِي عَنِ الشِّرْكِ"

ابن سناء الملك...،