إشكالية التوظيف وشفافية المعالجة

 

 

عمَّار الغزالي

 

بَيْنَما ضجَّت وسائل التواصل الاجتماعي، مُؤخرا، بالعديد من التعليقات والتغريدات المستفسرة والمطالبة بشفافية الرقم وموثوقية المعلومة، فور إعلان مجلس الشورى استضافته لمعالي الشيخ وزير القوى العاملة، والمعبِّرة عن آمال في أن يكون كل من الطرح والمناقشة موضوعيين وعلى مستوى قضية الباحثين عن عمل التي تتنامى عاما تلو الآخر، وبما يسهم في معالجة إشكال وتحديات التوظيف؛ باعتباره قطاعا مسيس الصلة بمستقبل فئة يعول عليها الكثير في استكمال مسيرة البناء والتنمية.. وبينما الحال كذلك جاء بيان مَعَالي الشيخ عبدالله البكري مواكبا للتطلعات وعاكسا لمُستويات الشفافية التي تنتهجها الحكومة لتبصير أبناء الوطن بما يحدث في مختلف أرجائه ووضعهم على مقربة من الحدث، بيانٌ اتسم بالمصارحة في تقييم الواقع، واستعراض دقيق لإشكاليات سوق العمل أكثر من مُجرَّد عَرْض لجهود وزارية فحسب، ليدقَّ ناقوس الحذر حيال تحديات التوظيف في السلطنة، بأرقام تُشخِّص واقع سوق العمل العُماني، الذي يقف على أبوابه اليوم أكثر من 43 ألف باحث عن عمل غالبيتهم من حملة الشهادات الجامعية.

وعلى ما يبدو أنَّ مَعَالي الوزير جاء بجعبة مليئة بالتحديات ليضعها أمام ممثلي أبناء الوطن؛ في توجُّه جديد لتطبيق مبدأ "الشراكة المجتمعيّة" في اتخاذ القرار؛ إذ لم يتضمَّن البيان خططا مستقبلية بقدر ما كان مليئا بإشكالات حقيقية ليس أقلها: عدم مواءمة مُخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل، وضعف نسب التشغيل، وعدم وصول برامج التدريب والتأهيل لمستويات تنافسية، وحالة عدم الاستقرار الوظيفي لدى بعض العاملين بالقطاع الخاص، فضلا عن تسريح بعض أصحاب المؤسسات لأعداد كبيرة من العمالة الوافدة؛ وانعكاس ذلك على عجلة اقتصادنا الوطني، عدًّا على تنامي عدد السجلات التجارية التي تتحوَّل في النهاية لستار أو نواة أساسية لـ"التجارة المستترة".

والأرقام التي حَوَاها البيان عكستْ كذلك تفاوتًا هائلًا في نسب توظيف العُمانيين مقابل الوافدين؛ إذ من بَيْن ما يزيد على المليون وتسعمائة ألف عامل وعاملة، يُمثل المواطنون 226 ألفاً فقط؛ وهو بالطبع ما يستدعي إعادة النظر في سياسات التعمين لتكون على أساس كيفي وليس كميّا فقط، بما يُواكب مقدار التطوُّر في أعداد المنشآت العاملة بالقطاع، وتسريع وتيرة الجهود لوضع لائحة عمل خاصة وتطبيق السُلَّم الوظيفي بالقطاع الخاص؛ كامتياز يتوازى مع ما يُقدِّمه القطاع الحكومي، وبما يُشجِّع المواطنين على الاندماج بهذا القطاع الواعد، ويعزِّز الاستقرار الوظيفي، وكاستجابة حقيقية لمتطلبات سوق العمل الآنية.

كما أنَّ إشارة مَعَالي الشيخ إلى التركيبة الهيكلية للقوى العاملة الوطنية -من حيث المستوى التعليمي أو المهارات المهنية- كأحد تحديات التشغيل، وأنها لا تزال غير مُنسجمة مع الاحتياجات الفعلية للسوق، تحتاج إثارة الحديث عن أهمية إنشاء المركز الوطني للتشغيل وتزويده بالكفاءات اللازمة، ليكون بمثابة "المحطة الواحدة" للباحثين عن العمل، يقوم بمتابعة سوق العمل ومعرفة احتياجاته، والتنسيق مع مؤسسات التعليم العالي لضمان مواءمة الدارسين لتلك الاحتياجات. كما أنه يزيد حجم التطلعات لتتسارع وتيرة عمل الصندوق الوطني للتدريب لإكساب الشباب - سواء المنضمون حديثاً لسوق العمل أو من هم على رأس العمل- المهارات الأساسية التي يحتاجونها للترقي الوظيفي وتولي المناصب القيادية والإشرافية.

إنَّ إشكالية التوظيف في القطاع الخاص، وقدرته على استيعاب تلك الأعداد الآخذة في الازدياد، على قدر ما تثيره من مخاوف لدى البعض، لكنها تبقى قضية ذات أبعاد تشعبية، تحتاج تضافر جهود الجميع على مختلف المستويات؛ سواءً المتعلِّق منها بنمط الثقافة المجتمعية لدى بعض أصحاب المؤسسات والسجلات التجارية للاضطلاع بمسؤولياتهم الوطنية؛ فدائرة "التجارة المستترة" -على سبيل المثال- لن تتسع إطلاقاً بهذا الشكل إلا بوجود مُواطن ضعيف الهوى يُساعد على ذلك.. كما أنَّ رقم 5000 شركة - التي تحدث بيان الوزير عن حظرها بسبب مخالفات تتعلق بتسريح وافدين- يعكس تراجع الاهتمام بالمصلحة العامة على حساب المادة وتحقيق المصالح الشخصية. وبالمقابل، فإنَّ شبابنا مُطالبون هم أيضاً بتغيير نظرتهم في التعاطي مع الفرص المعروضة عليهم، والتخلي عن الأفكار القديمة بأنَّ الحكومة هي المشغل الأول، والاشتغال على تطوير ذواتهم وتنميتها، لضبط كفتي ميزان المنافسة أمام العمالة الوافدة.

وعلى الضفَّة الأخرى، تتعاظم الآمال في البدء الفوري بدراسة مقترح تشكيل "لجنة الشورى" -التي أُعلن عنها خلال النقاش- لدراسة أسباب عزوف الشباب عن الفرص المقدَّمة لهم، والبحث في نوعية تلك الوظائف وأجورها؛ للتعرف على إشكالات هذا الجانب المؤرِّق، وأنْ يخرج إلى النور قانون العمل الجديد مراعياً أية ثغرات تتعلق بالإجراءات المنظِّمة للقطاع، وأنْ يتضمن مساواةً في امتيازات القطاعيْن الحكومي والخاص، ومراجعة استراتيجيات تعمين الوظائف الفنية، وتجويد كفاءة معاهد وكليات التدريب، واستحداث دليل وطني للتصنيف والتوصيف المهني، بما يُعزِّز مساهمة القطاع الخاص في حركة التوظيف.

وختاماً.. لا أدري تحديداً ما هي الأسباب التي أوْصَلتنا لهذا الوضع الصعب، تحديات كبيرة واكبت موارد محدودة وعجزا استثنائيا لا يُمكن تجاهله. لكن وعلى أية حال؛ هذه التساؤلات قد لا تفيد كثيراً خصوصا في الفترة الحالية؛ فليس الوقت بالمناسب للندم وإلقاء اللوم على الماضي والغرق في الأماني، ولن نقول كما قال عبدالحليم حافظ: "اللي شبكنا يخلصنا"، بل التعاون والتكاتف مطلوب من كافة أطراف الإنتاج للوصول إلى الهدف المنشود؛ كما أنَّ الشفافية في المعالجة والحَوْكَمة والمحاسبة المتبوعة بقرارات جريئة باتتْ خيارات لا يمكن تجنبها، ولنستلهم جميعاً من النطق السامي لجلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- بأنَّ "الدولة ليس بمقدورها أن تظل المصدر الرئيسي للتشغيل فتلك طاقة لا تملكها ومهمة لا تقوى عليها إلى ما لا نهاية، وأنَّ القطاع الخاص هو المجال الحقيقي للتوظيف على المَدَى البعيد".

ammaralghazali@hotmail.com