كُن مجنوناً

 

راشد الجنيبي

"كُن مجنوناً، فالمجانين سُعداء"..

الجُنون اسم مصدره جَنَّ، وهو بمفهومه ومعناه السطحي زوال العقلِ أو فسادٌ فيه، أي العجز عن السيطرة على العقل، ويترتب بذلك سلكويات شاذة يقوم بها المجنون، شاذة بمفهوم العرف الإنساني، أو لتكن "مفهوم الإنسان الطبيعي"، يقوم بها دون وعي وإدراك وقد يؤدي لضرر نفسه أو الآخرين بانتهاك أيٍ من المعايير الاجتماعية، وعبر التجارب والزمان كان للجنون أنواع غير الجنون المطبق، كجنون الفنونِ مثلاً ويوصف بها الذي يربط بين أشياء لا رابط بينها، وهوس الشباب ورعونته يُسمّى بجنون الصبا، أمّا جنون الارتياب فهو عدم الثقة غير المبرر فيه، وللعظمةِ أيضاً جنون يسمّى "جنون العظمة"، و هو عندما يُصاب المرء بخلل عقلي يُشعره بعظمةٍ وقوةٍ غير عادية وبذلك يرسم وقائع خيالية للهروب من الواقع، وكُثر من هم مصابون بهذا الجنون ونراهم بشكل شبه يومي، تعددت أوجه الجنون والسطور القادمة ستلقي الضوء على الجانب المضيء من "جنون" لِيُرسَمَ تعريفاً آخرَ له.

محمدٌ وعيسى وموسى عليهم السلام وغيرهم من سادة البشر المصطفين اتُهِموا بالسح و الجنون، تمثل جنونهم "كما ادعى مخالفوهم" بتكسير أصنام الجهل ودحر ظلام الشرك بنور الوحدانية ورسمِ نمطٍ روحانيٍ جديدٍ للتعايش، غيّر بذلك مسار البشرية أجمع، علماءٌ وأطباء ومفكرون وُصِموا بالجنون، بل حتى الفطاحِل منهم، علماء العرب والمسلمون الذين كان لهم أثر إنساني على الصعيد الفكري والطبي والهندسي والأدبي وغيره من العلوم، اتهموا بالجنون والزندقة، ابن رشد والفارابي والجاحظ وغيرهم، ويليام هارڤي ارتأى أنّ دم الإنسان يُضخُّ بالقلب للأوردة الدمّوية فحاكمه المجتمع بتهمة الجنون، السير نيوتن رغم عبقريته رَآه بعض المؤرخين مجنوناً ومن الصعب الجلوس معه فترة طويلة، الجنون جعلهم يبتعدون عن جمود الواقع وخالفوا بالجنون كل ما هو سائد في المجتمع وصنعوا بذلك التاريخ، تَشَرَّبوا حرية الفكر وحرية الجرأة على كلِّ مُثَبِّط فارتَقَوْا لسر الوجود، عباس بن فرناس!! قفزَ من علٍ طائراً فسَقَطَ جثّةً وما زالت رُوحُهُ طائرة، رسم ملحمة عن الإنسانِ والطيران، لكنّهُ سُمّيَ بـ "أسطورة المجنون الطائر".

إذن لما الجنون؟؟ إذا في المقابل سيكون نزال حاد بين المجنون وأقرانه، وذويه، بينه وبين جلافة مجتمعه، لما الجنون؟ الإنسان السَوي المفعم بالحياة المحارب لإثبات الوجود الساعي للتنوير كيف ما كان وأين ما صار، يجعل نصب عينيه هدفاً ومعنى سامياً يحيا من أجله، الإنسان السوي يكون في حياته صاحب رسالة صاحب قضيّة صاحب هدف ويموت ويحيا لتحقيقه، فابنُ فرناس ما زال يطير، ولذلك الهدف والرجاء السامي يوجب الجنون على المرء الطامح، الجانب المضيء من الجنون، الجنون! لتكسر الواقع ولترسم في باطن عقلك الإيمان والقدرة على قهرِ أي مستحيل، الجنون لتحارب قيود الوهم التي تهدُّ من حيلك، وتكسر عزيمتك، الجنون لترسم خطوطاً فوق إيطار الواقع الخانق، لترسمَ بخيالك وطموحك عالماً تفرضه على الواقع لا العكس، تحتاج رشفةً من كوب الجنون لتخرق الجمود وتنطلق وأنت مفعم بالحياة!!

كيف الجنون؟ على المرء أو الشاب المتعطش لرشفةٍ من كأس الجنون ألا يجعل أكبر همه هو فتاتُ مالٍ يأنس بهِ آخر الشهر، ولا سيارةً يُسيِّرُ بها حوائج يومه الروتيني، و لا زواجاً مبني على رغبةٍ غامضة وهمه بذلك لحاق القطار ورسم "حياة وردية" معتادة ومكرّرة، أو باسم "زوجوه/ها يعقل"، أي ألا يجعل حقوقه العامة كإنسان طبيعي هي حلمه وآخر حدود طموحه، ألا يخلق بالروتين الموروث المكرر جيلاً بعدَ جيل صراطا لحياته، فأين الجديد في ذلك، بل أين الحياة في ذلك، "الجنون هو أن تفعل ما اعتدتَّ أن تفعله وتتوقع نتائج مختلفة" آلبرت آينشتاين، وإذا أخذنا تعريفه بمحمل الجد، لوجدنا أن معظمنا بطبيعة الحال مصابين بالجنون بجانبه البائس، فكيف تنتظر صنع أي جديد وأنتَ تمضي على نفس الرتم؟ وعكس ذلك أنّ تكون مجنوناً لتحيا لتكسر حدة الواقع لتطير بآمالك، لتعرف ماذا ستكون قَبْلَ أن تكون، لتتخذ قرارتٍ مصيرية يُعاتبك عليها الجميع فيصفقوا لك لاحقاً، "قف على ناصية الحُلُم وقاتل!!" محمود درويش، بحق وبكل انطلاقة كُن مجنوناً!

إذن تعريف الجنون: هو قهر الحياةِ بالحياة.

الشباب، طموح، لا تجعل أكبر همك سيارة، كن مجنوناً لتحيا، لتكسر حدة الواقع لتطير بآمالك.. ؟ كيف تنتظر صنع أي جديد وأنت تمضي على نفس الرتم والروتين.

يقول آينشتاين: "الجنون هو أن تفعل ما اعتدَّ أن تفعله وتتوقع نتائج مختلفة" وإذا أخذنا تعريفه بمحمل الجد، لوجدنا أنّ معظمنا بطبيعة الحال مصابين بالجنون قف على ناصية الحلم وقاتل.