عُمق المساجد.. عمرانا وثقافة

 

راشد بن حمد الجنيبي

منذ بدء الرسالة وأول نزول الوحي اقتصرت صلاة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلّم على التأمل والخلوةِ والتفكر حتى نزل له جِبْرِيلَ عليه السلام حاملاً أمر الله بـ"اقرأ"، وبعد تكليف المصطفى وتوكيله برسالة النّبوّة من السماء ونزول آيات من الذكر الحكيم استُّنَّت الصلاة التي نعرفها اليوم، بأوقاتها الخمس وسننها ونوافلها، وعلى المدى البعيد شُيِّدت لها دور العبادة (المساجد).

بداية كان مفهوم المسجد مقتصراً على الكعبة وتوجه القبلة إليها، أي معنى "الحرم" أكثر من المسجد، الذي بناه النبي الخليل إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام، وبعدها بُني قباء ذي القبلتين، وأولاهن الأقصى الذي أُسرِيَ إليه بأمر الله، ومن ثم المسجد النبوي في يثرب التي استنارت بهِ وبصاحبه "المدينة المنورة"، في أول الهجرة اقتصر بناء المسجد في المدينة على الطين وشجر النخيل كأعمدة والقماش كفصول وأبواب أحياناً، ولم تبنى حينها المآذن والمنابر، منبر النبي كان عبارة عن درج لَهُ اربع درجات (حسب الإرث الإسلامي)، وخطب من بعده أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب من بعده، وفي الرواية أن عمر نزل درجتين أول ما خطب، (أول الدرج للمصطفى وثانيه للصديق) ومن بعده الخلفاء عثمان وعلي. وبدء منها مفهوم أن المنابر للقادة بمسمى خلفاء أمراء أو ملوك.

 

عمران المساجد تجاوز تأطير العبادة بل تشكّل وأصبح جزءاً من الحضارة الإنسانية، بعد الخلافة الراشدة أو بالأصح بعد توسّع حدودها، وبعد بدء مفهوم الخلافات والدول، من الدولة الأموية وصولاً إلى الدولة العثمانية، وذلك لتوسع رقعة دولة الإسلام وتضاربها وتزاوجها مع الحضارات الأخرى، كالفارسية والمصرية وحضارة بلاد الهند والسند والقوقاز والترك وغيرها الكثير، ومن هنا أصبح للمساجد شكل تراثي ثقافي (من الناحية العمرانية)، فشُيّدت المآذن ورفعت المنابر ونُقشت الزخارف وتباهت القِبب، ولاستناد التقويم الهجري على القمر أصبح الهلال على رأس المآذن، إلى أن أصبح شعار ورمز الإسلام اليوم هو الهلال والنجمة، والذي تستخدمه كثير من الدول العربية والإسلامية، كتونس وليبيا والجزائر وتركيا إلخ…

 

قدسية المسجد وصناعة ثقافات مجتمعاتنا من خلاله وتبنّي شعاراته ومنزلته من قيادات الدول في التاريخ والقرون الماضية يرجع لمكانة المسجد حينها، فكان يعني بيت الحكم الأول وأول مجالس الشورى وأول معاقِل التشريع والحل والعقد (البرلمان بمفهومنا الحديث)، وأول المنابر لتسلّم مقاليد الخلافة والبيعة والحكم، مفهوم الإسلام كدين ومفهومه كمصدر تشريعي ومصدر لتنظير السياسة والتوجه الدولي لحضارات الإسلام المُتعاقبة كان أهم حلقة لتوالي الدول القُطبية بمفهوم الدولة الواحدة للإسلام، لم تكن دُوراً للعبادة بل كانت في فترة من الفترات أول ركيزة من ركائز بناء الدولة.

 

في الجانب الآخر تشكلت كثير من المذاهب والفرق والمدارس والتيارات الدينية تحت الإسلام، ومن هذه المذاهب والآراء تشكلت المعارضات والمطالب التي يُمكن أن نعتبرها سياسية، وباختصار دون الدخول بالتفاصيل - تشكلت الدول والأحزاب السياسية استناداً للمسجد (دين الشعب) والمدرسة أو المذهب (عاطفة الشعب وانتمائهم)، وعلى المدى البعيد شكل ذلك انتماءات مختلفة ومن رأيي أن مفهوم المسجد وقدسيته وأنه أول منابر الحكم أصبح مشوّشاً، حيث إنه لم يتم استيعاب هذه المدارس والاختلافات في قالبٍ واحد، وفي كثير من الأحيان انتشرت لغة الإقصاء أكثر من السعة.

وتِباعاً لذلك فور سقوط آخر دولة إسلامية (حسب مفهومنا) في العشرينيات من القرن الماضي انقسمت الجماهير وأصبح انتماؤها قومياً حسب العرق، عرباً كانوا أم تركاً أم فرس، أو انتماءً بعقائد سياسية، لكن انطلاق هذه الدول وعدم توفر النضج السياسي خلق عدم اتزان آخر، حيث التبس لعامة الجماهير إن كان هذا النوع الذي لا يحمل صبغة دينيّة (حسب المفهوم المتوارث) إن كانت داخل دائرة الإسلام أصلاً أم لا، وهل حقاً الحكم شيء والإسلام شيء آخر؟ تلك الأسئلة المحورية برأيي شكّلت الأحزاب السياسية الإسلامية الحديثة، حنيناً لعبق الدُّول القديمة، وتشكلت أيضاً جماعات وفرق وأحداث محورية مهمة على هذا الصعيد لعلّ أهمها حركة الإخوان والثورة الإسلامية الإيرانية على الشاه وطفرة جيش المجاهدين العرب، العصب الأساسي لهذه الانطلاقات هو المفهوم الخاطئ لـ"فلسفة ارتباط الإسلام بالحكم"، وكيف يكون، ولمن يُؤْمِن برجوع الخلافة الراشدة كيف تكون بمفهوم الحكم الحديث أم بنفس طريقته؟ وهل هناك مهدي منتظر ومخلِّص إلخ…

 

كلها نقاط محورية خلقت الكثير من التبعات على المنطقة ورقعتها الجغرافية، قد تكمن المسألة في استيعاب هذه التغيرات المفصلية، وقد يكمن الحل في الطرح الجاد لمفاهيم الدوّل وشَيء من الجرأة لانتقاد التاريخ.