"تآلف".. وإكسير التآلف

 

 

عمَّار الغزالي

كل الشكر والتقدير لكوكبة مُبدعة من الشَّباب العُماني تعمل في إطار مُؤسَّسي يُسمى "تآلف"، وهي مُؤسَّسة تقوم بتنظيم سلسلة من البرامج والفعاليات الثقافية والفكرية والإبداعية، شعارها "حوار، وعي، تعايش). وما أحْوَجنا إلى هذه المعاني على مُستوى الأفراد والمجتمعات، خصوصا في عصرنا الحالي.

لقد أثْرَت "تآلف" الساحة العُمانية بعمالقة الفكر والثقافة من مُختلف بقاع العالم الإسلامي من أمثال عبدالفتاح مورو، ومحمد راتب النابلسي، ومحمد العوضي، وجاسم سلطان، وعمر عبدالكافي...وغيرهم الكثير، وأتاحتْ للجمهور الكريم فرصة التواصل المباشر معهم، والاستفادة من خلاصة خبراتهم وتجاربهم في التعريف بالرقي الحضاري الاسلامي، وسبل القضاء على التطرف والغلو الفكري، ونشر قيم المحبة والرحمة والعطاء.

استضافتْ "تآلف"، الأسبوعَ الماضي، المفكِّر الاسلامي الفذ الدكتور سَلْمَان العودة لإلقاء محاضرتيْن، وزيارة علماء عُمان للتعارف والتواصل وزيادة الألفة والمحبة. ولقد شاهدَ مئات الألوف من مُختلف بقاع العالم الإسلامي صورة سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة والدكتور سلمان العودة، وهما يتبادلان السلام والترحيب الحار، وكلاهما يُحاول تقبيل رأس الآخر، أحد المُعلِّقين على الصورة في قنوات التواصل الاجتماعي كتب "الحمدلله.. الأمة فيها الخير"، وهكذا يتأثر الجمهور كثيراً عندما يكون العلماء -وهم صمام أمان الأمة- القدوة في التآلف والمحبة واحترام الآخر.

كما أنَّ قواعد اللُعبة تغيَّرت، وأصبح بمقدور الشباب، وبموارد محدودة، تقديم الكثير والوصول إلى قلوب وعقول الملايين.. مقطع من اليوتيوب أو الإنستجرام أو تغريده على "تويتر" قد يزيد تاثيرها أو عدد مشاهديها على القنوات الرسمية مجتمعةً. ولما للمجتمع من دورٍ كبير في البناء والإصلاح والتنمية، فقد أتت جائزة حضرة صاحب الجلاله -حفظه الله- للعمل التطوعي، تشجيعاً للأفراد والمؤسسات على العمل التطوعي في مُختلف المجالات، وكلما كان المجتمع مشاركاً رئيساً في العطاء، كان هذا مُؤشراً على التقدُّم أكثر، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد أكثر من مليون منظمة تطوعية غير ربحية، وأكثر من عشرين مليون ساعة تطوع سنويًّا.

وهناك قائمة لا تنتهي من الأعمال التطوعية المهمة وغير المكلفة، وإذا فكر كلٌّ منا فيما يستطيع أن يُقدِّمه لمجتمعه ولوطنه، فسيرى أنَّ بإمكانه الكثير، وإن من إيجابيات العمل التطوعي أنه يسمو بالنفس البشرية ويجعلها تنتقل من الأنانية والتفكير في النفس إلى التفكير في الآخرين والاهتمام بمشاعرهم واحتياجاتهم، وهذا ديدن العظماء عبر التاريخ من العلماء والمفكرين والمصلحين. يقول المفكر الإسلامي المعروف د. عبدالكريم بكار -والذي كان أحد ضيوف "تآلف": "كُن مشروعا أو أسِّس مشروعا أو ساهم في مشروع، وكل خيار ذي قيمة لا يقل عن الخيارات الأخرى، وأحيانا يكون انضمامك لمشروع قائم يُناسب أفكارك وتطلعاتك أنفع وأولى وأسرع تأثيراً من تأسيس مشروع جديد، فعلينا أن نرتقي وأن نسمو بأنفسنا ونبتعد من "الأنا" بكل أشكالها".

حتى نتآلف.. نحتاج إلى البُعد كل البُعد عن العصبية والقبلية والغلو والتعالي على الآخرين.

حتى نتآلف.. نحتاج إلى عُقول عاطفية تتذوق مشاعر الرحمة والمحبة والسلام.

حتى نتآلف.. نحتاج إلى قلوب عقلانية تفهم معنى التعايش، وتُدرك خطر الحقد والتنافر.

حتى نتآلف.. نحتاج إلى طَرْح وسطي عميق غير مسطح، رصين غير متناقض، متماسك غير متهالك. طرحٌ وسطيٌ مُستدام يراعي قيم العدالة، يقتص من نفسه قبل الآخرين، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه.

حتى نتآلف.. نحتاج إلى فهم حقيقي للمقاصد الشريعة الغرَّاء، كما فهمها الرعيل الأول، حين كانوا خير أمة أُخرجت للناس، ميزانها العدل، وميدانها الإحسان، ورسالتها الرحمة للعالمين.

وفوق هذا كله، نحتاج إلى غَرْس قيم وأخلاق التآلف.. إنَّها إكسير التآلف الذي لا تآلف من دونها، والتي بلغتْ ذورة منتهاها في سيرة النبي الصادق الأمين صاحب الخلق العظيم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- الذي اختصرَ الرِّسالات السماوية في مكارم الأخلاق؛ حيث قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

أسأل الله العلي القدير أنْ يُبارك في الشباب العُماني "تآلف"، وأن يَجْزِي القائمين عليه خير الجزاء، وأنْ يجعل فيهم الخير الكثير.

ammaralghazali@hotmail.com