ماذا نحن فاعلون؟

 

 

عائشة البلوشيَّة

هاتفتني شاكية باكية، وبدون مقدمات قالت وهي تغصُّ بدمعها: "ما هذه الحالة الكئيبة التي أعيشها؟" سألتها: خير! ما الأمر؟ قالت: "منذ أن اقترنتُ بهذا الزوج، ولنا الآن ما قد يصل إلى العشرين عاما من الزواج، وأنا لا أجد راحة في بيتي، إنَّه بيت كبير فاره به كل ما حلمت به قبل زواجي، بيت كان في عيني جميلا وأصبحت أراه قبيحا، لا أجد فيه راحة ولا خصوصية، فأهل زوجي لا يتوقفون عن زيارتنا والمبيت لدينا لمدة قد تصل إلى ثلاث ليال، وضيوف زوجي يتوافدون علينا من كل حدب وصوب"؛ فصُدِمت من المرارة والتأفف التي لمستها في بحَّة صَوْتها، وقلت لولا أنَّ الله أراد بي خيرا لما هاتفتني دون غيري من نساء العالمين، وتذكَّرت المقولة التي تقول إنَّ بعض الأشخاص جعلهم الله تعالى في الحياة شواطئ آمنة نركن إليهم لنستريح من تقلبات الحياة، وقُلت في نفسي لِمَ لا أكون لها كذلك؛ لذلك يجب أن أهدئ من روعها، ففضلت أن أتبع معها أسلوب فتح الصناديق علَّني أصل معها إلى الهدف الذي رسمته في عقلي، فبدأت بالصندوق الأول: هدئي من روعك والتقطي أنفاسك حتى نستطيع أن نتجاذب الحديث، ثم أعقبته بالصندوق الثاني: تُرَى، كل ما يحدث لنا في هذه الحياة، أوليس مكتوبا لنا وأنَّ الله تعالى قد قدَّره لنا؟ فأجابتْ: "بلى، ولكنني لا أريد المحاضرات الآن"، قُلت لها إنَّنا في دردشة عادية ولستُ أُمْلِي عليك شيئا، أريدك فقط أن تخرجي كل السموم التي قد تقتلك إن استمررتِ في تعاطيها، يكفيك من العمر أنك قضيت عشرين عاما تجترين الغضب والتأفف، وجعلت جل وقتك التذمر والشكوى من كثرة الضيوف، وجعلت أفتح معها الصندوق تلو الآخر حتى وصلنا إلى  الصندوق الأخير، فقلت لها: لولا توفيق الله تعالى لكِ لما دخل بيتك إنسان، وأنَّه تعالى يرسل لنا العطايا على وجوه مختلفة، ويرى ما يكون منا من حال: هل نشكر، أم نصبر، أم نرفض العطية ونندب حظنا؟! وقد أرسل لك هذه العطايا على هيئة ضيوف، فكم من منزل يأنف الناس دخوله أو السؤال عن أهل بيته لسوء خلقهم، وجفائهم الواضح وعدم تواصلهم، فأصبحت تلك المنازل خرابات تعشش فيها الأنانية والوحدة والعزلة، وأنك من القلة في هذا الزمان الذين اختصهم الله تعالى بهذا الثواب، ولن أفرض عليك معلومة وأنت المثقفة عندما أقول لك بأنَّ أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم كان يُسمَّى "أبو الضيفان"؛ ﻷنه لا يأكل وحده، بل كان يخرج إلى السوق للبحث عن ضيف يأكل معه، فلا تمحقي الأجر الذي تجدينه بالتأفف والتذمر سرًّا، بل ابتسمي حمدا لله على خير عطائه، وأكرمي ضيفك بطيب اللقيا وكرم الوفادة، واسألي الله تعالى أن يديم عليك هذه النعمة، واجعلي عام 2016 يخرج وقد انسلخ من داخلك هذا الهم، وتلذذي بعطاء الله لك، وأنهيتُ مُكالمتي معها وقد تغيَّرت مائة وثمانين درجة بفضل الله.

تمرُّ بنا الحياة ونحاول أن نستقي الدروس والعبر من كل موقف يمر بنا، والبعض منا -نسأل الله أن يرزقنا ذاك- أكرمه المولى -جل في علاه- بالفهم والاستيعاب واستخلاص الحكمة من كل موقف يمر بهم، وها هو عام 2016 قد لملم أوراقه وأغلق ملفه بما فيه من أحداث إلى الأبد، ولن نستطيع ولو فعلنا الأفاعيل أن نستعيد لحظة من زمانه، فماذا نحن فاعلون؟ هل نستعيد الأحداث التي مرت بنا ونبكي على اللحظة التي لم نستغل جمالها؟ أم ننوح على فرصة طيبة فوتناها بتواكلنا؟ أم نتذكر غاليا فقدناه ونحمِّل أرواحنا ثِقَل أننا لم نعطه وقتا أكبر ومساحة أوسع في حيز اهتماماتنا؟ أم ننوء بأحمال دَيْن قضَّ مضاجعنا وظل ينتقل معنا كل عام؟!

إنَّه عام 2017؛ لذا فعندما نتذكَّر تلك اللحظة التي لم نستغل جمالها لنصنع لنا لحظات كثيرة غيرها مع من نحب ولمن نحب من الدوائر البشرية التي تحيط بنا مبتدئين بأضيقها وأقربها، فتلك اللحظة قد ولت ببريقها وهالتها ولن تعود، وأسفنا لن يغير من الأمر شيئا، وعندما نتذكر تلك الفرصة التي ضيعناها إهمالا وتواكلا، لنبحث عن أسباب تفريطنا لها، ولنجعلها دروسا لمستقبل الفرص، فتلك قد ذهبت ولن تعود مهما حاولنا ذلك، وحزننا على فواتها لن يعيدها إلينا، وعندما نتذكر ذلك الغالي الراقد تحت طبقات تراب الغياب، ذلك الذي فقدناه وقلوبنا تأكلنا بوحشية ﻷننا نظنُّ بأننا لم نمنحه وقتا أكثر ومساحة اهتمام أوسع، لنتذكر أنه لا يريد منا هذه المشاعر الآن، وأنه في غنى تام عن أسلوب جلدنا لذواتنا، وأنه يحب تذكرنا له يكون عبارة عن ابتسامة دعاء من القلب، وهمسة بيننا وبين خالقنا بأن يسعده في عالمه الأثيري هناك، وعندما نحس بذلك الثقل الرابض فوق ظهورنا بسبب ذلك الدين المرتحل معنا من عام إلى آخر، لنتذكر أولا ما هو سبب ذلك الدين؟ هل لبناء منزل أم لاقتناء وسيلة مواصلة تقينا ذل الحاجة للانتقال من مكان إلى آخر، أو لتجارة أردنا بها فتح أبواب رزق لنا ولغيرنا، ولتقديم خدمة أو سلعة، ولنعد ترتيب ملفاتنا، ولنتخلَّص من بعض المصروفات التي كُنَّا نظنها عَصَب حيواتنا اليومية، لنحاول في هذا العام الجديد تقليص ذلك الدين ﻷقل قدر ممكن.

كل عام يأتي لكل مِنَّا بثوب قشيب جديد، ونحن من يتسلم القطعة الخاصة به فيختار لنفسه القصة والطول التي تناسبه؛ فمنا من يأخذها ويركنها غير آبه بحياكتها؛ وذلك أسفا على ثوب العام الفائت الذي شوهه بألوان لا تليق به، ومنا من يأخذها فيعمل المقص والإبرة برعونة وتسرع فتخرج قصيرة أو ضيقة، فيلعن الحظ ﻷنه لم يتبع نفس الباترون الخاص بصديقه، وهناك الكثير ممن علَّقوا ثوب العام الماضي في دولاب الزمان، وجلسوا ينتظرون استلامَ ذلك الثوب برجاء وحسن ظن، وقد رسموا باترونا خاصا لموديل ارتأوا أنه سيكون الأنسب لهم، وأضافوا عليه الأكسسوارات المتماشية مع الموديل كلما سنحت الفرصة لذلك، فخرج الثوب كأجمل ما يكون.

باختصار.. وختام القول، لنطمر ما مضى تحت أطنان من الورود والياسمين، وذلك حتى تسري إلينا الروائح الزكية كلما رجعنا بذاكرتنا إلى الوراء، ولنسأل الله تعالى العفو العافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة في كل أمر ذهب، وكل أمر نعيشه، وكل أمر آت، ولنُحِط ذواتنا بالإيجابية والبساطة، ولنُعْطِ أرواحنا المنهكة فرصة الاستمتاع بنعم الله التي أحاطنا بها، ولنزين مجالسنا بمن يحملون أباريق العطور في أفواههم، فلا يخرج منهم إلا الطيب من القول، فإن أنت شكوت ذكَّروك بنعم الله عليك، وإن أنت بكيت كفكفوا دموعك واستبدلوها بابتسامة رضا وحمد على كل حال، وإن أنت سعدت شاركوك النجاح والحبور وكأن الحدث إنجاز شخصي لهم، وإن أنت زللت نصحوك وما تركوك، فكما يقال دوما إنَّ المجانسة تكون بالمجالسة، لذلك تخيَّر جليسك ورفيق دربك، فكثير من المشاعر تنتقل بالعدوى، ولنضع لنفوسنا مبدأ أن كل ما يحدث قد قدره الله لنا في لوح محفوظ، لذلك كلما واجهنا موقف ما، لنسارع العودة إلى هذا المبدأ، وأن لا نتسرع في شحن قلوبنا بالألم والحزن، وليكن السؤال: "لماذا أنا؟" داعم لجدران خوافقنا بتربيته بسيطة على كتوف قلوبنا بالقول: "أنا، ﻷن الله أحبني فأعطاني ما أعطاني".

جعل الله عام 2017م عاما سعيدا يُحقِّق الله فيه رجاء كل سائل، ويرزق فيه كل طارق لباب رزق، وأن يحفظ الله لنا وعلينا نعمه كلها ظاهرة وباطنة (قائدا وشعبا ووطنا).

-----------------------------

توقيع:

"ستاير النسيان.. نزلت بقالها زمان

تفيد بإيه يا ندم وتعمل إيه يا عتاب"

** من رائعة أم كلثوم "فات الميعاد"