المهنيَّة والحُرية الإعلامية

 

 

هلال الزَّيدي

وسائل الإعلام بثرائِها وتنوعها تُسابق الحدث في وقوعه واستقراء إرهاصاته، وربما تكونُ هي من تصنعه في كثير من تجلياته في عصرنا الحالي، ولعلها عُدت مدرسة فكرية تقوم على الخبرة والمهنية المتَّبعة من الوسيلة الإعلامية وطموحها الذي يُبنى على ارتفاع سقف التوقعات في خضم تقاطع المصالح من قبل المجتمع، هذا إلى جانب القيادة التي تقود توجهها برؤية إعلامية لا تقبل الاجتهادات التي تُودي بمهنية المؤسسة في حالة أنها أُوكلت لمن لا يُقدر وجودها وأهميتها، وهذا يتضح عندما تتحول هذه المهنية (إن كانت حقا مهنية) إلى مهاترات والاصطياد في الماء العكر والبحث عن الإثارة الرخيصة الصفراء المشوبة بفقدان الذات، فإنها حقا مرفوضة جملة وتفصيلا، ويكون طريقها قصيرا جدا، وهذا يتضح كذلك عندما لا تُفهم "حرية التعبير" على ما هي عليه، وإنما بالتعدي على حريات أخرى خارج حدود الحرية ذاتها.

نلتمس العذر أحيانا لمن لا يعرف الحرية أو لا يحس بها، ونحاول أن نُبسِط له من الحديث شأنا كي نوفي الكلمة حقها. وفي المقابل، لا يمكن أن نتجاهل من يتعدى على الحرية ويحاول أن يؤسس كيانا آخر لها، خاصة إذا كانت وسائل الإعلام مبنية على تقديم المعرفة وتقييم الاجتهادات الإنسانية من أجل الفرد والمجتمع، كما أننا نرفض تماما من يتطاول عليها ويضعها على قارعة الطريق كونها تتعارض مع مصالحه الذاتية. ولا نغفر -والغفران بيد الغفورـ لمن يتربص بالحرية ويجثو فوق منابعها. كذلك لا نعترف بمن لا يعترف بها في بيان الحقوق والواجبات، لذلك فهي أي الحرية كلمة متسعة تحتاج إلى سن قوانين تتماشى والتقدم الفكري للمجتمعات وتتلمس احتياجاتهم، وتقضي على بؤر الفساد التي تؤثر في بناء المجتمع.

وفي المجمل، علينا أن نؤسِّس أفرادا مُختصين ومُتخصصين في فهم علوم الإعلام وربطهم بالاحتياجات المؤسسية من أجل أن توكل إليهم رسم السياسات التي تؤثر في السمعة المؤسسية، لأن الدخول في معترك الإعلام وتجلياته، لا يجب أن يكون تحت مطلب "الهواية" أو النزعة الفردية غير المبنية على مناهج وأصول الإعلام في وظائفه وقيمه العليا. وهنا أُؤكد على تفعيل دور مؤسسات التعليم العالي من جامعات وكليات متخصصة في الإعلام، وتقييم مسارها الذي ربما أصبح يحتاج إلى الكثير من التغيير في المضمون كونه لا يتماشى مع احتياجات العصر والانفتاح الذي تشهده العقول قبل العيون؛ لأنها أي المؤسسات التعليمية تعمل على تخريج كوادر مؤهله ومدربة بالتزامن مع سوق العمل؛ لذلك من الواجب على الجهات المختصة وحرصا منها على تنوع وثراء المجال الإعلامي دفْع الخريجين بالتفكير في مشاريع خاصة مدعومة من قبل الجهات المختصة لها قيمة معرفية وفكرية في المجتمع.

وإذا عُدنا إلى مصطلح الحرية الصحفية أو الفكرية المفضية إلى إيجاد نتاج فكري يخاطب العقول بهدف الارتقاء بقيم المجتمع أو نقدها في أطر النقد البنّاء، فإنه يتبادر إلى ذهننا عبارة "أن حرية الصحفي أو الكاتب مكفولة وليست مكبولة أو مكبلّة"، وهذا حسب العرف الإعلامي النظري في شتى المجتمعات الديمقراطية، ومصادر الصحفي ومنافذه التي يبتغيها للحصول على المعلومات والأسرار وكشف ما يُتستَّر عليه، تدخل في شأن حريته الصحفيه، فلا يجب التعدي عليها أو الإفصاح عنها، وإنما يجب أخذ الموضوع من باب العلم بالشيء لمحاسبة النفس وشؤون المؤسسات، وإيقاظ الرقابة الذاتية في نفوس الأفراد حتى نصل إلى النزاهة في كل شيء.

وفي نطاق الحرية التي يحاول الكاتب أو الصحفي التمسك بها تشوبها المتاعب والمشاق من أجل الوصول إلى المعلومة؛ فهو إذن مجتهد، والمجتهد له أجران، وهذا يقودنا إلى التركيز على أسس الحرية والتي يجب كذلك أن تكون مُنزهة ونزيهة في تعامل الصحفي مع الآخرين، أي: عدم السماح لأي "مسؤول" بأن يستخدم الصحفي لتصفية الحسابات، وهذا يعود إلى ثبات مبادئ الصحفي وقوة المؤسسة في عدم ترك مساحة فارغة من احتياجات الصحفي أو الكاتب حتى لا يُسارع المسؤول بملئها نظير استمالة الصحفي فيكون "منبره متى شاء".

... إنَّ هامش الحرية واتساعه مرهونٌ بمدى ثبات المبادئ الحقيقية التي تقوم عليها مختلف المؤسسات والمتمثلة في تقديم خدماتها وتأدية الدور المنوط بها على أكمل وجه كما أنها مرتبطة بالمبدأ الإنساني الذي يبنى على الشفافية والوضوح المفضيين إلى الصلاح من أجل تأدية واجب لنيل حق، فكلما كان المجتمع بمكوناته الجمعية والفردية صالحا، اتسع نطاق الحرية وابتعد شبح الخوف الذي يلازم المفسد في عمله، فمهما تحدَّث وكتب الصحفيون فإنهم لا يجدون إلا منجزات حسب الأنظمة والقوانين، لذلك ارتبطت الحرية بمن ينشدون السلام ويتطلعون في العيش بحرية وأمان، فلا يتحقق الأمان إذا صودرت الحرية، ولا تتحقق الحرية إذا صودر الأمان.. وكلاهما ينصبُّ في فهم المعنى الحقيقي للحرية في قاموس الأحرار الذين يبتغون إليه سبيلا.. ومن هنا علينا أن نعيد بناء مسارات الحرية بما يوافق مسارا الصلاح الاجتماعي.

إنَّ نقد الفكرة بالفكرة هو العُمق الواسع الذي يجب أن تتأسس عليه كافة أطراف المجتمع، وحرية التعبير عن الرأي هي الفكر الذي يجب أن لا يصادر، فلك الحق أن تُعبر عن رأيك تجاه ما يدور حسب الأطر المشروعة، وللطرف الآخر الرد بطريقة الحوار الفكري المعروف. وليس بطريقة التهديد الأرعن الذي يهدف إلى التخويف وإثارة البلبلة، وتُوجد مشكلة اجتماعية أخرى متمثلة في عدم الثقة فيما يتخذه صاحب القرار.

وفي كثير من الحقائق والدراسات، نجد الإشارة إلى أنَّ عدداً كبيراً من الإعلاميين "الصحفيين والكتاب" يعيشون على خط الفقر، وهذا ما يثبته الواقع؛ فأكثرهم لا يجدون نظير إنتاجهم وجهودهم، بسبب عدم التقدير من مختلف الشرائح؛ لأنَّ الإعلام لم يعد شريكًا في بناء التنمية الشاملة، وإنما عده الآخرون متصيدا "وعدوا" يجب عدم الاكتراث له أو تحييد مواقفه، أو تهميش المختصين به؛ لذلك وكونهم -أي الصحفيين والكتّاب والأدباء- يقدمون التضحية بعُصارة أقلامهم، فهم بعيدون عن الشهرة، ومصادرهم المادية في نضوب مستمر. وأعتقد أن حقوقهم لم يجدوها أسوة بزملائهم في بلدان أخرى؛ فمن يُعيد النظر في احتياجاتهم؟ ومن ذا الذي سيُمهِّد لهم الطريق من أجل إيجاد طرح إعلامي مُتزن وفق منظومة علمية تتكافل المؤسسات التعليمية فيها مع المؤسسات الإعلامية المهنية؟!

--------------------------

همسة:

نمتلكُ كفاءات إعلامية قادرة على مواجهة متطلبات العصر، لكنها "مُغيَّبة في حقل العلاقات العامة" (بالمصطلح الدارج) في مؤسسات عامة "خدمية"؛ فحتى لا تشيخ تلك الكفاءات بالعمل الروتيني وبالإقصاء المتعمد، أيقظوها لأنها متخصصة.

 

abuzaidi2007@hotmail.com