"العمل الحر.. حرٌّ ومر"

 

 

طالب المقبالي

ينتابُ كثيرًا من الموظفين والعاملين بالقطاعين الحكومي والخاص إحساسٌ بأنَّ العمل الحر أفضل، وأنه عملٌ حرٌّ خالي من القيود والضوابط التي تفرضها جهات عملهم، وهذا نتيجة ضغوط العمل وصرامة بعض المسؤولين في التعامل مع مرؤوسيهم والضغط عليهم من أجل إنجاز الأعمال الموكلة إليهم في أوقاتها، ومن أجل إنهاء معاملات الآخرين وعدم تأخيرها، وهذا يُسبِّب ضيقًا وضغطًا على الموظفين، ويصف البعض العمل كموظف بالقطاعين الحكومي والخاص بـ"الأسير".

ويأتي هذا الإحساس نتيجة الشعور بالظلم أحيانا من عدم الحصول على ترقيات وعلى حوافز جراء الجهد الذي يبذلونه. كذلك حرمانهم من الإجازات إذا ما تطلب العمل بقاءهم على رأس عملهم. ولعلَّ إحساسَ البعض بأفضلية العمل الحر نتيجة البحبوحة والرفاهية الظاهرية التي يشاهدونها لدى الطرف الآخر دون التعمُّق في تفاصيل حياة ذلك الرجل الذي يكدح ليل نهار متمنياً أن يجد ساعة من النهار يرتاح فيها ويجلس خلالها مع أسرته وأطفاله.

وهنا.. يجب أن نتساءل: كيف استطاع ذلك الشخص جمع ثروة طائلة؛ فقام بشراء مزرعة، وبنى بداخلها قصراً منيفاً، واشترى سيارة فارهة.

قبل بضع سنوات، كانتْ تربطني علاقة متينة بأحد المقاولين الكبار الذين يعملون في مقاولات البناء؛ فصارحني بحقيقة تألَّمت لها كثيراً، وهو يغبطني على ما أنا عليه من نعمة وراحة، حيث وصف أنني حينما أنتهي من عملي أذهب إلى منزلي وأتناول طعام الغداء مع أولادي وأجلس معهم طوال المساء، ثم أتناول العشاء معم، ثم أراجع معهم دروسهم، ثم نجلس نتسامر معا في جو أسري بهيج.

هذا الرجل أقسم لي أنه يخرج من منزله بعد الفجر وأولاده نيام، ثم يعود في الليل ويجدهم كذلك نيام، ويقول وعيناه تغرغر دمعا: "أتمنى يوما أن أرى أطفالي كما يرى الناس أولادهم، فأتحدث إليهم وأسمع أصواتهم، فقد حُرمت من سماع صرخاتهم وشجارهم وشكاواهم".

تألمتُ كثيراً لكلامه، فحاولت التوصل معه إلى حلول كأن يُخصِّص ساعة أو ساعتين من النهار يجلس فيها مع أسرته، فقال: "مُستحيل، فطالما ابتليت بهذا العمل لن أجد هذا الوقت وإلا تعطلت أعمالي".

ويصفُ مهنة المقاولات بأنها من المهن المتعبة؛ بحيث يتطلب الأمر متابعة المشاريع التي ينفذها ويحضر مُتطلبات البناء، ويذهب إلى مناطق بعيدة لجلب بعض المستلزمات، وغالبا ما يُسافر إلى خارج السلطنة كي يحضر بعض المواد التي لا تتوفر هنا.. وقال: "من أين لي بالوقت؟".

هذا نموذج من نماذج العمل الحر؛ فهناك التاجر صاحب المتجر الذي يخرج صباحا إلى متجره، لكنه يعود عند الظهيرة إلى منزله لأخذ قسطٍ من الراحة، ثم يعود إلى متجره في المساء ويمكث فيه حتى وقت متأخر من الليل، هذا النموذج ربما أرحم من النموذج الأول وإن كان يقضي جل وقته في العمل.

ومن أنواع العمل الحر: العمل في الصناعة، والعمل في الزراعة والحقول، وجميعها تتطلب جهدًا ووقتا.. وهناك الصياد الذي يقضي ليله في عرض البحر، وعندما يعود يقضيه في السوق لبيع صيده. وهناك صاحب سيارة الأجرة الذي يقضي جل وقته في الطرقات، وكذا الحال بمدرب قيادة المركبات يخرج من بيته فجراً ويعود إليه ليلاً، وأحيانا تتخلله قيلولة بسيطة، وجميع هؤلاء لا ينعمون بالجلوس مع أولادهم كما ينعم الموظف، وإن كان دخل الموظف أقل بكثير، إلا أنَّ راحة النفس أفضل من كنوز الدنيا.

فكَمْ من ثروة تركها أصحابها ولم يستمتعوا بها، وإنما استمتع بها غيرهم، وكم من ثري رحل وبدد ثروته ابن حُرم من حنان الأبوة وعاش كاليتيم، فعوض حرمانه بالمال الذي حصل عليه دون عناء.

نعم ربما الأحوال المادية أفضل بكثير، لكن في المقابل كل شيء بثمنه.. فكما يُقال: "ما أعجبك شيء إلا وقد أتعب صاحبه".

muqbali@hotmail.com