فلسفة الجلوس على الكراسي (1)

 

 

د. واصل القعيطي

ما الذي يقفز إلى الذهن عندما نقول كلمة الكرسي؟ لا أكتمكم أن روحا انزاحت في مُخيلتي، أفكار كثيرة عن تلك القطعة الأساسية في الحياة، فكرا ومادة، ومثلما البشر طبقات، فالكراسي مُتعدِّدة ومُختلفة باختلاف أحجامها وأماكنها؛ فلكل طبقة اجتماعية كراسيها الخاصة، كما أنَّ هناك كراسي مشتركة تجمع الغني بالفقير مثل كرسي الحلاق، وكرسي طبيب الأسنان. وكلما تنوعت الكراسي، تنوعت وسائل وأساليب الوصول إليها؛ فهنالك كراسٍ يتم دفع ثمنها مسبقا، ونوع آخر يتم تحصيله من خلال النفاق والكذب واستعراض القدرات، ويقودنا هذا التنوُّع والاختلاف في الكراسي إلى مفارقة أنَّ أول كرسي يجلس عليه المرء يُحيل إلى الطفولة المبكرة عندما تتهيأ الأمهات لتعليم أطفالهن السيطرة على الجسد والتخلص من مخلفاته، وهي مفارقة غريبة، ذلك أننا نتعوَّد أن نجلس وفق تعليمات صارمة وتدريب مرير، ولكننا لا نلبث أن نشعر بأن هذا هو الأمر العادي والطبيعي، نتأقلم مع التعاليم، نجلس كما ينبغي، نستأنس، ونتدرَّب على استعمال مختلف الكراسي التي تمرُّ في حياتنا القصيرة، قبل الانتقال إلى مهد الأرض.

وتتقاطع في مخيلتي الأفكار حول لعبة الكراسي مثلا، عندما يتدافع اللاعبون لاحتلال ما تبقى من كراسٍ تقل تدريجيا كلما تقدَّمت مرحلة. إنها باختصار لعبة الفرص في الحياة، وبالطبع يملك الكرسي المعنى الكبير سياسيًّا واجتماعيًّا، كما أنَّه شديدُ الإغراء في الأدب، حيث يُمكن ومن خلال تناوله أن تذهب إلى شتى المعاني والحيل، ويندر أن تجد كتابة أدبية وقد تحرَّرت من ظلال الكراسي، حتى ولو صوَّرناه مشهدا في المكان، وليس عبثا أن آية قرآنية حملت اسمه، ولا شكَّ حفلتْ بالدلالة عليه.

إنه كومة من المشاعر والمعاني والأفكار والعلاقات، لا مجرد خشب اجتُثَّ من شجر. طالما أغرى المسرحيين ليدوروا حوله ويفتشوا عن أسراره. وبالطبع لم ينج منه الفن التشكيلي، الذي استعاده كما هو وقلبه كمادة أثيرة على الريشة، وتركه علامة فوق اللوحة قادرة على هز وجدان المشاهد وبعث مختلف الأفكار فيه.  وإنه كرسي الأحلام للعاشقات اللواتي يحلمن بليلة الزفاف، وهو ذاته بوابة الموت لمن نالوا حكم الإعدام بالكرسي الكهربائي، وهو الوسيلة لتربية نشء على الانضباط في المدرسة، وهو حلم السياسيين الطامحين إلى المنصب الأكبر. إنه عالم متعدد الاتجاهات، واسع الإحالات، لهذا لم أجد من المناسب أن أرسم لكتاب الرأي الثقافي خطا محددا يسيرون عليه وهم يتناولون الكرسي معنى ودلالة. تركت لكل كاتب أن يطلق قلمه في كيان الكرسي ليكتب ما تبعثه الكلمة في خاطره، ولعلِّي حظيت بدراسات ونصوص حول الكرسي، لكني أعرف أنَّ الملف سيكون بمثابة بوابة للقارئ كي يتذكر بنفسه تلك الكراسي التي جلس عليها، والتي حلم بها، والمعاني التي انطوت على علاقته كإنسان بهذا الجماد المالك روحه الخاصة. أردتُ أن أسبر مع القراء أذهانَ المثقفين حول ما يعنيه هذا الكرسي القابع في بيوتنا، المتحكم بإرادتنا، المالك إرادته والمتمتع بطبيعته، القادر على قولبتنا وتغيرنا، ومصادرتنا، الذي نحبه ونكرهه في آن، المريح، المتعب، الصياد والفخ!

... إنَّ لعبة الكراسي قصة عميقة في معانيها وسرها في الطفل وماذا نزرع فيه منذ الصغر، فهو من سيبنى بعد ذلك؛ ففلسفة اللعب هي أحد المفاهيم التي تحاول الكشف عن الأنساق الأيديولوجية والسياقات المنطقية للأفراد والجماعات والثقافات من خلال تحليل استقرائي للممارسات الفردية والاجتماعية للألعاب، وقد أدرج علماء الفلكلور -المعنيون بدراسة التراث الشعبي- الألعاب ضمن المشخصات التي تحدد هوية الشعوب، وقسَّموا الألعاب من حيث الكم إلى (فردية، وجماعية)، ومن حيث الكيف إلى (ذهنية، وحركية) ومن حيث الآلية إلى (تنافسية إيجابية، وعشوائية سلبية تعتمد على الحظ والمصادفة). وينزع "تيل جرون" وغيره من فلاسفة العقل إلى القول بأننا يمكننا التعرف على طرائق الإنسان في اتخاذ قراراته من خلال تحليلاتنا لميوله ورغباته والألعاب التي يفضلها (قل لي ماذا تفضل من الألعاب، أخبرك عن قدرتك على اتخاذ القرار وأنبئك عن منطقك في التفكير)، كما ذهب "ديفيد لويس وآلات جيبارد" إلى أن هناك الكثير من الألعاب -التي تعتمد على المهارات الذهنية- تكشف بوضوح إستراتيجية اللاعبين وخططهم  وقدرتهم على التخيل ومهاراتهم في المراوغة والتحرك. ويمكن اعتبار تجربة الكاتب التونسي أبوبكر العيادي في مجموعته القصصية "لعنة الكرسي"، واحدة من أكثر التجارب نضوجا فنيا في مقاربة هذا الواقع وتعرية عنفه وفساده، وتشويهه لقيم الإنسان والحياة الكريمة.

ولعله من المناسب أن نطلق على هذه المرحلة عصر "الإنسانية"، والتي نتمنى بالفعل أن تكون محققة على أرض الواقع عِوَضاً عن الشعارات التي تخلب العقول بما تحويه من عبارات منمقة براقة تتردد على الألسن وفي وسائل الإعلام المختلفة، بينما هي في الحقيقة فارغة من أية مصداقية.. لماذا؟ يكاد يخلو مضمونها من أية أبعادٍ فلسفية تؤسس لعلاقات إنسانية بين إنسان وآخر من حيث المساواة والكرامة: الحقوق والواجبات والقيم، وتوحِّد الجميع على مبادئ إنسانية مشتركة من منطلق التماثل الجوهري الإنساني بين أفراد المجتمع؛ فمسألة الأنا التي تعني في مفهومها التمركز والذاتية وأحياناً الذاتية المتعالية لها دلالة عميقة وخطيرة؛ إذ إنها نمط من التفكير المترفع الذي ينغلق على الذات ويحصر نفسه في منهج معين وصاحبها لا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته الخاصة.. يعيش حالات من التحايل والمراوغة مع الآخر بانتظار لحظة تصادم عندما تتعارض الأفكار وتتصادم المصالح.

 

Qaiti9922@yahoo.com