أجيالنا بلا ذاكرة

د. واصل القعيطي

قيل فيما مضى.. عظمة الأمم تُقاس بعبقرية ما تورثه للأجيال القادمة.. لكن هل يُمكن القول إنّ العصر الرقمي الذي نعيشه (سينتج) (جيلاً) قادمًا بلا ذاكرة يعيش في مجتمعات بلا مرجعيّة؟ ولتبسيط المسألة فنتأمل ملايين الصور والمعلومات والرسائل التي تتبادلها أجيالنا وأين مصيرها وهي تتشكل هويتها التاريخية بما يبث عبر هذه الشاشات؟ وكيف يمكن فهم واستيعاب من يعيشون منعطفات حياتهم العمريّة وسط الكم الهائل من هذه الوسائط؟.

وسائل الاتصال تطوّرت من مجرد "وسائط" إلى حضارة رقميّة تشكّل الأجهزة باختلاف أنواعها ومسمياتها فيها نقطة ارتكاز معظم دوائر النشاط الإنساني، والسؤال كيف سيرسم هذا الإرث العالمي الحضاري في صيغته الرقميّة (شخصيّة) وذاكرة من ينشأ ويترعرع وسط هذه الدوائر؟ فطالما "الشخصيّة"هي انصهار نفسي واجتماعي للكائن الإنساني يظهر في السلوك ويُعبّر عنه مجموع العادات والاتجاهات والآراء التي يكونها الإنسان ويتصّرف بموجبها. فعلى هذا الأساس أن المرجعيات الفكريّة التي تنشئ وتزن وتعدّل القيم المرجعيّة لأفراد أي مجتمع كانت عبر التاريخ البشري من إنتاج ذلك المجتمع ومن مكوناته المتوارثة، وعلى هذا البناء وبقوة الأثر التراكمي لمرجعيات المجتمع (المتفق عليها والمتوارثة) تتضح الشخصيّة الحضاريّة لكل فرد وبالتبعيّة شخصيّة المجتمع وما يُميّزه عن غيره. ولكن ما هو حاصل في مجتمعات اليوم أن هذه المرجعيات (التقليديّة - المحليّة) لم تعد حاكمة على سلوك الناس (في مجتمعهم) جراء هيمنة منظومة قيم (عولميّة) مغرية التطبيق رهيبة الوسائل. هذه الهيمنة لم تأتي كما نسوق لذلك بأنّها نتيجة مؤامرة كونيّة مخططة ومدروسة، لكن ماحدث وما سوف يحدث كان نتيجة متوقعة لحالة التدافع الحضاري الذي أفرز سيادة شبه مطلقة للحضارة الأكثر إغراءً وحيويّة في وسائلها ونظرتها للفرد والحياة. فهل يمكن أن يأتي يوم تختفي أو تفسد فيه هذه الحضارة الرقميّة وتجد أجيالنا في حالة "يتم" حضاري جراء انقطاع صلتها التاريخيّة بذاكرتها الحضاريّة ومنظومة مراجعها الثقافيّة التي تستمد منها عمقها الوجداني والروحي؟ وماذا تملك الشعوب (المغلوبة) من أدوات تقنيّة لحفظ وتوزيع واسترجاع ما بثّته على الفضاء الإلكتروني؟.

الواقع التقني يُبرهن لنا أنّ عدد ما تخزنه خوادم الشبكة العنكبوتية يتجاوز عدد الكلمات التي نطقت بها البشرية طوال تاريخها، فيوجد في ملكيّة الدول الكبرى أكثر من 14 تريليون صفحة إلكترونيّة يفهرس منها "جوجل" قرابة 50 بليون صفحة.

المؤرخ البريطاني "هوبل" يؤكد على حقيقة استخلصها من تجاربه ليتوصل إلى نتيجة مفادها إذا أردت أن تُلغي شعباً، تبدأ أولاً بشلّ ذاكرته، ثم تلغي كتبه وثقافاته وتاريخه، ثم يكتب له طرف آخر كتباً أخرى ويُعطيه ثقافة أخرى ويخترع له تاريخاً آخر…عندها ينسى هذا الشعب من كان وماذا كان والعالم ينساه أيضاً…"  وهذه حقيقة لأنّ الشعوب التي لا تُحافظ على تاريخها يكون مصيرها الأكيد الزوال، ونسيان الماضي يؤدي إلى فقدان المستقبل… لكن الكارثة التي تُعانيها أجيالنا فهي فقدان الانتماء التاريخي وتزوير الهوية القومية نتيجة التوجيه السياسي المغلوط والكتابة التاريخية المشوّهة التي عتمت على سيرتنا الحقيقية لصالح صورة اصطناعية في خدمة أهداف سياسية قديمة حديثة، وهي باختصار أهداف "التعريب والتذويب". فنحن عندما نقوم بنشاطاتنا اليومية إنما نقوم بها بصفتنا نحمل إرثاً حضارياً وثقافياً واجتماعياً في عقلنا الباطن، فلو نظرنا إلى فكرة الشبكة العنكبوتية التي أضحت المادة التي لا غنى عنها في حياتنا اليومية، كانت لأهداف عسكرية ثم تحولت إلى أبحاث علمية لخدمة الأهداف العسكرية وتحولت مع مرور الزمن إلى معلومات دولية لكل شيء عنواناً للعولمة في هذا العصر فكيف نفهم شيئاً من وظائفها السياسية؟

آل جور نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش وصاحب مصطلح طريق المعلومات الفائق السرعة قد نادى بإقامة بنية أساسية معلوماتية عالمية ووضع أحلام التنمية البشرية بين شطري الاقتصاد الحر والديمقراطية، وأن وجود الإنترنت من عدمه ومدى القيود المفروضة على استخدامه أصبح أحد سمات التطور والتحرر الديمقراطي الذي يميز دولة ما عن أخرى، ولعل هذا الوجه السياسي لهذه الوسيلة المعلوماتية ذات الطبيعة غير المقيدة، فمعطيات الديمقراطية الرقمية لا تقف عند حدود ممارسة التصويت الديمقراطي ولا عند إجراء المسوح الميدانية بل تجاوزتها إلى إعلان الاحتجاج والعصيان المدني الإلكتروني، الذي يقول عنه "هنري ثورو" المنظم له – كل النّاس يتمسكون بحق الثورة، وهو حق رفض الولاء لحكومة ما بل ومقاومتها عندما يصبح استبدادها وطغيانها وعدم كفايتها أمورا غير محتملة، فآلية العصيان المدني الإلكتروني لا تحتاج أكثر من جلوس الناشطين سياسياً وراء شاشات الحواسب والاتصال بالإنترنت للتظاهر أو لتكوين رأي عام ما، ولكن بصور ووسائلها قد تكون أحيانا أكثر فلاحا من المواجهة الحقيقية.

فطالما تعرفنا على هذه الأدوات التي تسير مجرى حياتنا، فكيف نحفظ ذاكرتنا ونكنز موروثنا ومنظومة قيمنا بأدواتنا لأجيال ستحتاجها؟ تخيّلوا فقط حالنا وحال أجيالنا فيما لو حدث شيء (كارثي) لهذه الخوادم الإلكترونيّة (التي لا نتحكم فيها) سواء جراء خلل فني أو نتيجة قرار عسكري سياسي خارجي؟ فمن يضمن للأجيال القادمة حقها في معرفة تاريخها وكنوزها؟ ومن يتصدّى لصيانة وحفظ منتجات الفكر في العصر الرقمي، خاصة بعد وضوح تأثيرات الثقافات الوافدة وهيمنة الفكر القادم من وراء الحدود على مظاهر حياتنا الثقافية؟.

إن عملية تجميع التاريخ و"غربلته" قبل تقديمه، غذاءً صحيّاً متكاملا ومنظما، تتطلب وقتا في انتظار الإعداد والإنضاج، ولذلك فإنّ الحاجة الآن هي تقديم حلقات سريعة وخفيفة للشباب من التاريخ، تشبه وجبات الـ "فاست فود"، إن جاز التعبير، تشمل إلقاء المحاضرات وإعداد البحوث، وإجراء المسابقات في مواضيع محددة أو مفتوحة، تنبش في التاريخ لتُشهِّر معالمه وآثاره وتُقرِّبه، ضمن خطة هادفة، شاملة ومستمرة ومنتظمة. ولا ينبغي الانتظار، فلا تُغْني النُتَفٌ القليلة، التي تخص أحداثاً ومناسبات وطنية معينة، يتلقاها التلميذ كدروس، في مراحل محددة من تعليمه، بإشراف مَن هُم أمسُّ حاجة منه أحيانًا لمثل ذلك التلقي أو التلقين. ليس تقليلاً من شأنهم ولكنه الحال. وقبل أنْ يَسوء فهم البعض فيتهمني خطأ بجهل أو بتجاهل واقع معروف، أو بأنني كمن يخاطب الظروف ويخاصمها!، أقول بأنّ المطلوب ليس بعيداً تماماً أو مستحيلاً أو غير ممكن، هو: حصول الوَعْيٍ بضرورة وأهمية الموضوع، مع توفر الرغبة أو الإرادة الوطنية، قبل تقديم جهود ذاتية مخلصة، لإنقاذ أحد أهم مكونات وجودنا الحضاري والثقافي، وهو التاريخ، من النسيان أو التهميش.

إن إهمال التاريخ أو التغافل عنه، هو بمثابة عقاب جماعي غير مستحَق لشبابنا وأجيالنا اللاحقة، إذ سيجدون أنفسهم أمام فراغ وجوديٍّ حقيقي لا يستطيعون معه البدء من الصفر، وستكون الحيرة والتذبذب مآل الكثير منهم. ترى ما هي الصورة التي سيكوِّنها هؤلاء الشباب، أو تُكوَّن لهم!، عن الماضي، في ظل غياب "الإنتاج المحلي" للمعلومة التاريخية الوطنية وتقديمها من لدُنَّا نحن؟.

إن شبابا بدون حاضنة تربوية صحيحة، أساسها التزوُّد من التاريخ الوطني والثقافة الوطنية، اللذَين يخُصَّان مجتمعه وبلده، هو شباب لا ينضوي تحت أيّ عنوان بارز، ولا يمكن التثبت من انتمائه لأيّ إطار وطني مُحدد. فعناصر الهوية الوطنية لا يُمكن أن يحددها العرق، أو تشكلها البطاقة والإقامة مثلاً، بل لا بد من الامتداد الروحي والمعنوي في الماضي المحلي، بما يعنيه من أحداث وجغرافيا ومجتمع وعلاقات، كأسس تبرر موضوعية وأحقية أيّ انتماء وطني صحيح. وأمام هذا العَوَز الثقافي لدى الكثير من شبابنا اليوم، في أحد أهم عناصر هويتهم الوطنية، يكتسب البعض، عن طريق الحظ، في مزاولة المسؤولية العمومية ومعايشة الأحداث، معلومات تاريخية كثيرة ومهمة، تليدة وجديدة، لكن البعض منهم ظل يحتفظ بما عنده من هذا "المُلْكْ"، دون أن "يَتصدَّق" منه أو يزكيه، كما لو كان يكتنزه كالحسنات ليوم الحساب!.

 في عصر المنظومة الرقمية لا نملك الخيارات حول طريقة عرض المعلومات، مثلاً افتح على قناة إخبارية ما فإنك ستجد متحدثين مبرمجين تقريباً، وحسب المعطيات لتطور تقنية الهواتف المحمولة ستكون قادرة على تعديل طريقة بث المعلومات بما يناسبك، وهذا أكثر من مجرد التحرير، حيث سيكون الهاتف بمثابة قناة رئيسية للوصول للمعلومات، لكن هذه القناة ذكية بما يكفي لعزل الأخبار التي لا تهمك والتركيز وإعطاء الأولوية للأخبار التي تهمك، فقد دخل مفهوم اللعب الاجتماعي حياتنا اليومية، لكن مستقبلاً سيكون بشكل أوسع، فستتمكن مباشرة من إجراء مسح للبحث عن أشخاص يناسبون اهتماماتك وذوقك الخاص وقد لا يكونون من أصدقائك، وبعدها ستتمكن من اللعب معهم بطريقة تفاعلية جماعية وهذه هي الكارثة الحقيقية التي سوف تنتظر أجيالنا.

[email protected]