هل أنا فاسد؟

 

 

د. عبدالله باحجاج

رُبَّما يجدُ القارئ عنوان المقال مستفِزًّا كثيرا، ومثيرا جدًّا، لكننا إذا ما وضعناه ضمن سياقات واستنتاجات مقالنا الأخير المعنون باسم "كيف نحرر الممارسة السياسية من الفساد؟"، فسيُعد طرحه الآن طبيعيا جدًّا، كنتيجة تحليلية تفرضها السياقات المجردة التي تحاول أن تنظر للقضية من منظورها الشامل، مع التركيز على الأهم؛ ففي هذا المقال حدَّدنا أذرع معيارية للفساد، يُمكن من خلالها أن ينصب المرء قاضيا على نفسه، يُدينها أم يُبرئها، فأذرعة الفساد هى استغلال السلطة الإدارية، ونهب المال العام، والرشوة، والتَّلاعب بالأنظمة، والتمييز بين النَّاس والتقصير في أداء العمل، وضعف الانتماء للوطن، والتستُّر، وابتلاع الأراضي، فهل ننصب ضمائرنا كقضاة للحكم على ذواتنا؟ لا ينبغي أن يثير هذا التساؤل كذلك أية حساسية لدى القارئ، فهو أيضا من ضمن السياقات التحليلية التي ينبغي أن نُطلق عنانها لدواعي الظرفية الراهنة، وهى دواعٍ يحتِّمها وضع ذواتنا في مكاشفة ذاتية ذاتية، وكذلك لانتشار ثقافة المنفعة الخاصة وتغلغلها سياسيا واجتماعيا، واختلاط الحق المشروع والحق اللامشروع عند الكثير من الناس، بوعي أذرع الفساد العديدة أم للاوعي بها.

والوعي واللاوعي، يُمكن استجلاؤهما من صورتين للفساد، إما أن يكون الفاسد ركنا من أركانه، أو جزءا من منظومة فاسدة في صورتين؛ الأولى: وجد نفسه فيها فجأة رغم أنفه. والثانية ممارسته للفساد دون أن يعلم أنه فساد، وفي واقعنا صُوَر لكل تلك الحالات التوصيفية، أغلبها تعتقد أنها غير فاسدة، ويقنعون أنفسهم بأنَّ الذي يقومون به هو جزء من القانون، وحتى لو فيه مخالفات قانونية فإن موافقة السلطة الحكومية عليه تشرعنه أي تعطيه الشرعية، كما تبرِّر فسادها وترجعه إلى الثقافة السياسية التي تدفع بأفراد المجتمع إلى الطلب الممنهج حتى أصبح حقا قانونيا، وفي حالات كثيرة، ترجع كل ما تقوم به إلى الثقافة الشعبية التي يعبر عنها بعض الأمثلة؛ مثل: "إذا الحكومة عطتك مرق كلل ثوبك"، ففي مثل هذه الأمثلة إباحة للمال العام بمباركة السلطات، بل وفي حالات كثيرة تدفع بالمواطن إلى الطلب. إذن، هل أنا فاسد؟ التوصُّل إلى الحكم على الذات قد أصبح واضحا تماما، ووضوحه كذلك ساطعا لأولئك الذين امتهنوا الفساد، وانظموا إلى قافلة شياطين الإنس، يتظاهرون بصالح الأعمال، وأفعالهم العكس. لكن: هل ينبغي أن نُراهن على الضمير الفردي؟ كإدانة تستوجب المساءلة، ومن ثم استرجاع الأموال والثروات مثل العقارات. الإجابة ستكون بالنفي القاطع، لكننا أردنا من فتح قضية الفساد من هذا المنظور حتى تحاكم الضمائر الاجتماعية نظيراتها الفردية، وحتى تعرف مدى مساهمتها في مكافحة الفساد من عدمه. إذن، كيف نحرِّر الممارسة السياسية من الفساد؟ هذا تساؤلنا الإستراتيجي الذي ينتقل معنا من المقال السابق، والاجابة عنه يُحتِّم علينا الأخذ بعين الاعتبار الزوايا المهمة التي فتحناها من خلال ما تقدَّم، ففيها رؤية تكاملية للحل من منطلق محاربة الفساد في ثنائيته السلطوية كفعل، والمجتمعية كرد فعل، وذلك حتى نحرر الممارسة السياسية من بناها الفوقية -الثقافتين السياسية والشعبية- قبل أن نراهن على القانون والقضاء، وهنا يمكن القول بأنَّ تخصيص مبالغ مالية كبيرة سنويًّا لبعض الوزراء دون رقابة ومساءلة قد تنتج الفساد وترسخه، وتدفع بضعاف النفوس إلى الارتماء في أحضانه، وأحضان السلطويين، كما أنَّ منح البعض منهم صلاحية صرف الأراضي خارج وزارة الإسكان يصبُّ في المسار نفسه، ويجعل المواطن يرتبط بالسلطوية وليس السلطة؛ فلماذا يمنح بعض الوزراء صلاحية المنح المالية والأراضي؟ قد يُقال لبعض الاعتبارات (..)، وكشاهِدِي عيان على واقع وتاريخية التطبيق، نقول: إنَّ الكثير من الممارسات قد خرجت عن نطاق الاعتبارات، كما أن هذه الاعتبارات لم تعد تتناغم مع واقعنا المعاصر، وتعرقل تطورنا نحو ترسيخ دولة المؤسسات والقانون؛ لأنها تمثل انتهاكا صارخا لمنظومة الحق والواجب التي تقوم عليها المواطنة، كما أنَّها مُخالفة لنص القانون، فإعطاء الوزير سلطة مطلقة في صرف الأموال ومنح الأراضي، ستؤدي حتما إلى مفسدة مطلقة، ولن نضمن النزاهة والأمانة، خاصة في ظلِّ غياب الرقابة والمساءلة، وقد ترتب عليها بسبب تراكم الممارسة سلبيات كبيرة، قدست السلطة، وعززت ثقافة الطلب عند قاعدة عريضة من المواطنين. وللأسف، يكون دائما لأصحاب النفوذ نصيب الأسد من هذه المغانم، مثل ما حدث مؤخرًا والتي وسَّعت إمبراطورياتهم العقارية، فبأي حقٍّ تعطي لمثل هؤلاء المتنفِّذين؟ وما هى المعايير الاستحقاقية؟ هنا منطقة إغراق عميقة جدا للممارسة السياسية، فكيف يتم السكوت عنها حتى الآن ؟ فهذه أموال وثروات وطنية، يجب أن تذهب في مساراتها المستحقة، وما أكثر مستحقيها؟ والحديث عن تخليق الممارسة السياسية للسلطويين الحكوميين والعموميين، يقتضي سريان تطبيق قانون الذمة المالية بعد تفعيل مواده مؤخرا؛ بحيث ينبغي أن يشمل كل مجلس: الوزراء والوكلاء ومديري العموم ونوابهم، وممثلي الحكومة في الشركات والعاملون بالشركات المملوكة للحكومة بالكامل أو تلك التي تسهم فيها بنسبة تزيد على 40% من رأسمالها، وكذلك أعضاء مجلس عُمان المكوَّن من الشورى والدولة، وهذا منصوصٌ عليه في القانون، لكن يظل التطبيق هاجسنا الدائم، فلو طبق هذا القانون بأثر فوري وعلى الكل في وقت واحد، أو كل من يدخل للمسؤولية الحكومية والعمومية، وفُعِّلت أجهزة الرقابة المالية والإدارية، وقُدِّمت الإقرارات بالذمة المالية سنويا، وأحيلت قضايا إلى القضاء، فتلكم ضمانة مؤكدة لهزيمة الفساد المالي والإداري، ببناها الفوقية والتحتية معا، مثلما نجحنا في هزيمته في مجال الغذاء من قبل هيئة حماية المستهلك، تظل الكرة في ملعب جهاز الرقابة المالية والإدارية، فهل سنرى انتصاراته قريبا؟!

علينا هنا التذكير بمسألة في غاية الأهمية، وهى أن قضيتي الفساد والباحثين عن عمل سوف تشكلان أكبر الإكراهات التي سوف تواجه الأنظمة خلال المرحلة المقبلة، وفق آخر الدراسات العالمية. ومن هنا، ننظر لتطوير قانون الذمة المالية للمسؤولين الحكوميين والعموميين عبر إدخال مواد جديدة، بأنه استشراف سياسي لتلك الإكراهات من جهة، وتجديد للإرادة السياسية العليا لمكافحة الفساد التي عبر عنها بقوة عاهل البلاد -حفظه الله- في العام 2011 من جهة ثانية؛ وذلك لإدارة تحديات المرحلة المقبلة، وتجنب بلادنا إكراهاتها، وذلك متاح الآن لجهاز الرقابة المالية والإدارية -سياسيا وتشريعيا- ونقول لأطره وكوادره بصَوْت مرتفع أنتم الآن في مفصل تاريخي؛ إما تستغلونه كما استغلته هيئة حماية المستهلك وحققت الاختراق، بل الإعجاز، ونتائجها شاهدة لها بذلك، أو تفوتون على الوطن هذه الفرصة التاريخية، وتدخلوننا في أتون مرحلة مقبلة، تداعياتها أصبحت معلومة بالضرورة، فماذا أنتم فاعلون؟ وللزوم رفع الوعي الذي نراهن عليه كثيرا، نرى من الفائدة أن نرسم صورة ذهنية لمشهدنا الوطني إذا ما استغلت الرقابة المالية والإدارية الفرصة التاريخية المتاحة لها الآن؛ فنأخذ على سبيل المثال: إقرار الذمة المالية لأعضاء مجلس عُمان؛ فهذه العملية ستولد قوة جبارة في محاسبة ومساءلة الحكومة؛ لأنها ستفصل مبدأ النفع الشخصي للعضو عن دوره البرلماني، فكم من أعضاء سابقين -لا نُعمِّم- قد انتفعوا من عضوياتهم في المجلس؛ مما أثَّر سلبا على أدوارهم؛ فمن ينتفع من وزير في السر، كيف له أن يُحاسبه أو يسائِله في العلن؟ وشركات المحاجر التي أسَّسوها أثناء فتراتهم البرلمانية والعقارات التي حصلوا عليها مثلا أكبر استدلال على الرهانات الوطنية لتطبيق قانون الذمة المالية بالقوة نفسها التي تمنحها الإرادة السياسية والتشريعية التي هى في الأصل واحدة، ويمكن القياس على ذلك بتطبيق القانون على كل الفاعلين الحكوميين والعموميين، التطبيق التطبيق التطبيق هاجس الوطن والمواطن، ورغم حالة اليأس التراكمي، لكننا على ثقة بأن التطبيق لن يكون أقل قوة من الإرادة السياسية والتشريع، بل إنَّ قوة التطبيق تستمد من تلك القوتين: السياسية والتشريعية.