زاهر بن حارث المحروقي
هناك نماذج من البشر تحتاج أن تُسَلَّط عليها الأضواء، لأنّها تُؤمن بالعطاء ولها رسالة في هذه الحياة وتُعدُّ بمثابة القدوة. وفي عُمان لدينا نماذج كثيرة، ولعل أبرزها الشيخان مُحمد بن سالم البوسعيدي وزاهر بن خليفة العلوي ومن معهما من أعضاء جمعية الاستقامة الدولية التي تنجز في صمت أعمالاً تفوق أعمال حكومات، رغم ضيق ذات اليد وكثرة العراقيل؛ إذ استطاعت الجمعية أن تتحول من العمل في الجانب الإنساني البسيط، إلى الاهتمام ببناء المدارس والمساجد ودور الأيتام وحفر الآبار وبناء المستوصفات والعيادات والكليات، وأصبح طلبة جمعية الاستقامة يتخرجون كأطباء ومهندسين وغير ذلك من المهن التي تتطلبها الحياة. وقد ميّز جمعية الاستقامة أنّها ركزت على خدمة المُسلمين بكافة أطيافهم ولم تكن جمعية مغلقة على مذهب مُعيّن أو على عِرق معين؛ ومن طلبتها حتى بعض المسيحيين، لذا لقيت القبول.
من النماذج التي ينبغي تسليط الأضواء عليها، الأستاذ ناصر بن سعيد الرواحي، مؤسس أكاديمية سمائل لعلوم القرآن في الجزيرة الخضراء (بيمبا). وتعود معرفتي بناصر إلى الثمانينيات، إذ جاء به الزميل يوسف بن حمد الرواحي في جولة عبر أروقة الإذاعة، وكان أوَّل ما لفت نظري هو لغته الفصحى والتي يبدو أنّه لا يُجيد التحدث بغيرها، وسألته عن سبب ذلك فقال إنّه يؤمن بأنّ اللغة العربية الفصحى هي سلاحٌ وحضارة، وأنَّه من الخطأ أن ننتصر للهجات المحلية على حساب الفصحى كما هو حادث الآن في وسائل الإعلام. ثم إنِّي تابعتُ بعض مشاركاته في برنامج "البث المُباشر" فلم أجده إلا مدافعاً عن لغته وفكرته، وقد تميّز بروح النكتة؛ ففي الحلقة التي ناقشت التسوّل قال فيها:"إنّ بعض المتسوِّلين لا يملكون حتى الذكاء الفطري، بل يتميزون بالغباء الشديد؛ فهم يتسوّلون من أناس خارجين من مكاتب دفع الفواتير، والفواتيرُ في عُمان من الطول بمكان".
عقب ذلك بسنوات تناقشنا في عدة أمور، عندما خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ إلى مسجد حرقوص بن زهير في الحيل الجنوبية لمدة ثلاثة أيام، وكان السبب الأساسي لهذا النقاش هو ما دار في ذهني، ماذا يُفيد ناصر الإسلامَ بمكوثه في المسجد، وهو صاحب طاقة يُمكن أن يصرفها في جوانب أخرى تفيد النّاس في أمور دينهم ودنياهم؟!. وقد كنتُ متحفظاً في طرح أفكاري حتى لا أجرح مشاعره، لأنّ من يؤمن بفكرة معينة كفكرة خدمة الإسلام عن طريق الخروج في سبيل الله مثلاً، من الصعب إقناعه بفكرة مُغايرة حتى لو كان فيها من المنطق ما فيها؛ إلا أني وجدتُ عنده قبولاً.
(وقصة انضمام ناصر إلى جماعة الدعوة، بدأت عندما خرجت جماعة إلى مسجد "الصادق الأمين" في الموالح الجنوبية، وبما أنّ ناصر كان أحد المرابطين بهذا المسجد، فقد رغّبتْهُ الجماعة في الخروج، إلا أنّه ظلّ يرفض الفكرة، لأنّ لديه أعمالاً في المقاولات. إلا أنّ أمير الجماعة في ذلك الخروج، وهو سلطان المشايخي ذكر له حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:"إنّ الله تعالى يقول: يا ابن آدم.. تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك.. وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك". هنا قال ناصر لسلطان: أعد إليّ الحديث لو سمحت، فأعاده على مسمعه، فاقتنع بالفكرة وخرج مع الجماعة).
وقد حكى لي موقفاً حدث معه، وهو موقفٌ ربما يشرح لنا لماذا اتِّجه إلى فكرة الإنفاق في سبيل الله من غير خوف ولا وجل، فأثناء بناء مسجد الصادق الأمين، حان وقت قسط المُقاول، لكن المبالغ لم تكن متوفرة، وأمام الالتزام ما كان من ناصر إلا أن باع سيارته، ولكنه قال إنّ الله عوضه بعد ذلك، حيث اشترى سيارة جديدة من الوكالة بمبلغ 25 ألف ريال بعد أن ازدهر عمله في المقاولات، وقال إنّ من ينفق لله مخلصاً فإنّ الله يعوضه في الدنيا قبل الآخرة. وقد ذكر لي من ضمن ما ذكر أنّه زار زنجبار، ورجع بانطباع أننا إذا أهملنا تلك المنطقة فإننا سنبكيها مثلما بكينا الأندلس، لذا فهو الآن في فترة دراسة وتأمّل حول ما الذي يستطيع أن يفعله. وذكر أنه في زيارة للجزيرة الخضراء التقى بمسؤولي جمعية الاستقامة فرع بيمبا، وكان الحديث يدور حول احتياجاتهم، وما هو الاستثمار الذي يُمكن أن يدر لهم دخلاً ثابتاً حتى يستطيع الأهالي أن يقوموا بواجباتهم تجاه دينهم ولغتهم؛ فتم طرح الكثير من الأفكار، ووعدهم بدراستها، ومن هنا جاءت فكرة إنشاء أكاديمية سمائل لعلوم القرآن الكريم في الجزيرة الخضراء، خاصة بعد أن حضر ناصر أكثر من مُسابقة قرآنية، فهاله ما شاهده من تمكّن الطلبة من حفظ القرآن كاملاً بقواعد تجويده وفق المتاح، مع إقران كلِّ آية محفوظة برقمها من السورة وإجادتهم في الأداء؛ فلما سأل أحدهم ذات مرة وهو يسلمه الجائزة: ما عساك فاعلاً بعد هذه الإجادة؟! لم يجد الطالب جواباً. يقول ناصر: "هنا قلت هناك حلقة مفقودة، لعل ذلك الشاب لم تكن لديه المقدرة للتحدث بالعربية؛ فقررنا إقامة درس في أحد المساجد بعنوان "أنا أحب القرآن"، فشهد الدرسُ حضوراً غفيراً، فلما بدأنا التحاور في لطائف الكلام الرباني إذا بي أذهل بأنّ الأغلبية الساحقة لا تعرف من القرآن إلا رسم الحروف". هنا قرر أن يترك مشاريعه في عُمان كمقاول، من أجل مشروع رآه هاماً وهو تدريس اللغة العربية هناك، بعدما رأى أنّ الجزيرة تحتاج إلى تعزيز الوجود الإسلامي فيها، وهي التي لها جذور عُمانية لافتة، ويُعتبر يوم الثالث من جمادى الآخرة 1433 هـ، 25/ 2 / 2012م يوم ميلاد مشروع أكاديمية سمائل؛ إذ تمّ في هذا اليوم إشهارها رسمياً.
خلال أربع سنوات من انطلاق الأكاديمية، وصل عدد المدارس التابعة لها إلى مئة وخمس مدارس في أنحاء مُتفرقة من الجزيرة، وبلغ عدد الطلاب ثلاثة عشر ألفاً، يقوم على تدريسهم ما يزيد عن ثلاثمائة مدرِّس، ويتم حالياً إنشاء مقر للأكاديمية يتكون من ثلاثة طوابق يحتوي على ثماني عشرة وحدة كمكاتب وصالات تعليم المعلمين وكذلك قسم خاص للضيوف. وتتلخص أهداف أكاديمية سمائل لعلوم القرآن في توطين اللغة العربية كثاني لغة قومية في بيمبا، وتمكين قارئ القرآن من حالة التَّدبر في القصص القرآني والاستفادة من القرآن الكريم على الصعيدين الديني والمعاشي.
في مشروع ناصر الرواحي نقاط إيجابية كثيرة، منها على سبيل المثال أنّ القرآن الكريم إنما أنزله الله كدستور عمل تعمل به الأمة، ولا يمكن أن يكون دستوراً إلا إذا تمَّ تدبره، ولا يتم التدبر إلا بفهم اللغة العربية. وهذه نقطة أساسية، فكثيرٌ من المُسلمين في مشارق الأرض ومغاربها (وهكذا تربَّيْنا) يعتقدون أنّ مجرد حفظ القرآن وترديد آياته من غير تدبر وفهم، هو قمة ما يصل إليه الإنسان، فأقيمت مسابقات للحفظ، فيما ندر أن نرى مسابقات أو دورات وندوات للتدبر، وإننا نجد كثيراً من الأعاجم يحفظون القرآن الكريم تلاوة وتجويداً ولا يفهمون ما يقرأون، وحالهم في هذا كحال أيّ إنسان حفظ مقطوعة أدبية بلغة أجنبية لا يتقنها وإنما أجاد فقط ترديد ما حفظ، وفي حالة كهذه يكون القرآن مجرد نغمة يرددها الحافظون؛ فيما ينبغي أن يتحوَّل القرآن إلى عمل يُترجَم في واقع حياة الناس، إلى عمل وإنتاج وسلوك وأخلاق؛ وهذا ما نأمله من أكاديمية سمائل لعلوم القرآن.