كيف نحرر الممارسة السياسية من الفساد؟

 

د.عبد الله عبد الرزاق باحجاج

تساؤل العنوان يتناغم مع نقاشات واهتمامات اللحظة الراهنة، لكن من منظور مختلف، فهذه اللحظة اقتضت مؤخرًا إصدار ضوابط جديدة للذمة المالية للمسؤول الحكومي من منظور مستقبلي، وبالذات فيما يتعلَّق بتحديد الأموال والمنقولات والأرصدة النقدية للمسؤول الحكومي والزوج والأولاد القصر، دون سن 18 سنة، والتي تتجاوز قيمتها ألف ريال كالسيارات والمجوهرات والمشغولات الذهبية والأحجار الكريمة والتحف والثروة الحيوانية وغيرها، لكل مسؤول يتولى منصب حكومي أو حتى عمومي، هل ممكن تحقيق ذلك؟ لأنّ هذه الضوابط تتعلق بمستقبل النزاهة والأمانة للمسؤول الحكومي، أي ليس بماضي الفساد، ومهما يكن، فإنّ هذه الضوابط تأتي لتُعزز القانون السابق حول الذمة المالية، وتترجم التوجه السياسي لمكافحة الفساد الذي عبَّر عنه بقوة عاهل البلاد حفظه الله عام 2011، فكيف إذن، نجعل الممارسة السياسية وسيلة من أنجع وسائل مكافحة الفساد في بلادنا؟.

من الملاحظ، أنَّ محاربة الفساد يكتنفها البطء، والإشكال عند بعض النخب السياسية، وبسببهما لم يحدث اختراق يرتقي إلى مستوى توجهات القيادة السياسية، والتطلعات الاجتماعية، دليلنا هنا، حركة تقدمنا في مكافحة الفساد والتي يُعبر عنها سنويًا تقرير عالمي يصدر عن منظمة الشفافية العالمية، ففي تقرير 2014 احتلت بلادنا المركز (64) عالمياً، وفي عام 2015، تقدمت إلى المركز (60)، وهذا يعكس فعلاً وجود جهود في مكافحة الفساد، لكنها ليست بتلك الطموحات السياسية والمجتمعية، ويركز مؤشر المنظمة التي هي غير ربحية على الفساد في القطاع العام، وتعرفه أي الفساد باستغلال السلطة لتحقيق مكاسب خاصة، بينما يعرفه البنك الدولي، بأنّه إساءة استغلال السُّلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، ولا تميز هذه المنظمة بين الفساد الإداري والفساد السياسي، ولتقريب مفهوم الفساد إلى الأذهان العامة، يمكن القول بأن أذرعه عديدة أبرزها، استغلال السلطة الإدارية، ونهب المال العام، والرشوة، والتَّلاعب بالأنظمة، والتمييز بين النَّاس والتقصير في أداء العمل، وضعف الانتماء للوطن، والتستر، وابتلاع الأراضي، ودليلنا على وجود الإشكال السياسي، سنتوقف قليلاً عند المقاربة السياسية للفساد، وهل تتلاقى مع المُقاربة الاجتماعية أم تتعارض؟ ومن ثم كيف نستطيع أن نقنع الآخر بالمقاربة الاجتماعية التي نؤمن بها، وندافع عنها؟ لماذا؟ لعلنا بذلك نُساهم من خلال رفع الوعي في مكافحة إفساد – ثقافة وممارسة – وتعميم الوعي بآثار الفساد المُدمرة على الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالمُقاربة السياسية، تحمل المواطن مسؤولية الفساد بسبب لجوئه إلى اتباع وسائل غير شريفة من أجل تخليص معاملته في يوم واحد، وتعمم المسار، وهنا الإشكال الذي ينبغي إزالة غموضه والالتباس من حوله، وهذا ما سنتناوله من منظورين أحدهما إداري والآخر سياسي، فمن المنظور الأول، وعلى سبيل المثال، لا يمكن مطالبة المواطن بالترفع عن الأساليب الالتوائية، والبيروقراطية المعقدة جدًا، وتأكل منه وقته وماله، كما أنَّ هذه البيروقراطية لم تعتد بالحمولة الجغرافية للبلاد، كمسندم وظفار ..، فهناك استياء من مركزية التمركز الجامدة لتخليص المعاملات وقضاء الحاجات، فهي تستنزف من مرتباتهم الشهرية المستهدفة الآن من قبل السياسة المالية، مبالغ مالية كبيرة، وهذا يفتح لنا الآفاق حول مُستقبل التداعيين - المالي والإداري – على البعد الاجتماعي، ومن المنظور السياسي، وعلى سبيل المثال كذلك، لا يُمكن تحميل المواطن المسؤولية إلا بعد استرجاع المعنى النبيل للسياسة المرتبطة بخدمة المواطنين والعمل باستمرار على تحسين معيشتهم، وليس تجميدها، وتقليص من مكتسباتها عبر معالجة تداعيات الأزمة النفطية من جيوب المواطنين، فعلينا أولاً تحرير المواطن من الإحباطات النفسية التي يقع فيها بسبب البيروقراطية وبفعل خيبات الأمل في الأداء الحكومي، وفقدان الطموح في أبسط حقوقه الآن بسبب الأزمة النفطية، ولابد من الاعتراف بأنّ هناك بعض السلطويين – سابقاً – قد أفسدوا مفهوم السياسة، وحطموا ثقة المواطن، وهي مرحلة لا تزال جاثمة فوق النفسيات، بهواجسها وبتداعياتها، ولم يعمل الفريق الحكومي الحالي على استعادتها رغم صدور عدة توجيهات من لدن عاهل البلاد في هذا الشأن، والسياسة نعنيها هنا، كل ما يتصل بالشأن العام، والفاعلون السياسيون هم كل من يتعاطى مع هذا الشأن، وليس بالضرورة أن ينصرف الفهم إلى المعنى الضيق للسياسة.

إذن، القضية التي تتصدر الأولوية في اللحظة الوطنية الراهنة، تكمن في ضرورة تحرير الممارسة السياسية من استغلال النفوذ؟ فالسلطويون وبمجرد تسلمهم السلطة يصبحون من ملاك العقار ومن أصحاب الثروات، والسلطوي اسم منسوب إلى سلطة، والسلطة ليست بالضرورة أن تكون حكومية، وإنّما كذلك أية سلطة رسمية، كسلطة أعضاء مجلسي الشورى والدولة والمجالس البلدية وغرف التجارة والصناعة، وسلطة المثقف أو الكاتب أو الشيخ .. فكل سلطوي يصل للسلطة أو يبزغ نجمه يكون جل هاجسه الانتفاع الشخصي، فشاهدنا سلطويون يبتلعون العقارات بالمجان أو بأثمان زهيدة، وشهيتهم دائمًا مفتوحة .. لا يرضون ولن يرضوا مهما انتزعوا من الدولة من منافع شخصية لهم، وشاهدنا آخرين كلما تسنح لهم فرصة لقاء على مستوى عالٍ تستغل مكانتها كصانعة رأي عام من أجل بضعة مئات من الريالات، أو من أجل قطعة أرض، وشاهدنا سلطات تتدخل لترجيح منصب أو وظيفة لصالح قريب أو صديق لها غير مستحق، وترمي المستحقين في قافلة الخبراء والمستشارين في إقصاء للكفاءات .. إلخ وبالتالي، فكل خبير ومستشار أو مُعظهم وراءهم سلطات معتدية على حقوقهم .. هل نعمم؟ قد نتعب كثيرًا في البحث عن سلطوي تجرَّد من منفعته الشخصية أو العائلية، وركز جل فكره ووقته لمصلحة الوطن والمواطن، سنجد طبعًا، لكننا سنتعب كثيرًا في البحث عنهم، وإذا وجدناهم، فسنتعب كثيراً في الحصول على العدد الطبيعي، إذن، هل نُعمم؟ لن نفتح ملف السلطويين والإثراء غير المشروع، فالكل على اطلاع ميدانياً على إمبراطوريتهم العقارية التي حولت من استخداماتها القانونية إلى استخدامات متعددة الأغراض من أجل المال، والتي من تداعياتها القضاء على الأراضي الزراعية، والكل يعلم كيف كانت أوضاعهم المالية، وكيف أصبحت الآن؟ ولا أحد يطالبنا بالدليل المادي، فلدينا الدليل التاريخي الناطق بفصيح العبارة، وهذه مسيرة مستمرة حتى مع النخب السلطوية الجديدة، فكيف نتطلع إلى مكافحة الفساد؟ وكيف نحمل المواطن في ظل هذه الثقافة السياسية؟ وهذه الثقافة بمسيرتها المتواصلة، وتعاقب جيل النخب السلطوية على الوقوع فيها، قد انتج عقلية سلبية لدى المواطن، وصور السلبية عديدة، هل نعمم؟ من هنا حتم علينا طرح التساؤل الذي صدَّرنا به المقال (نكرر) من منظور مساعدة جهود الدولة في مكافحة الفساد، ومن منظور استنهاض دور المجتمع وفاعليه المنتخبون في خلق ممارسة تراكمية للبناء عليها، ولو بحثنا عن هذه الممارسة، فسوف نجدها مفقودة، وهذا ما يدفع بالفاعل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي إلى استغلال سلطته فور تسلمه السلطة، إذن، كيف يمكن تخليق الممارسة السياسية والرهان على التراكمية في محاربة الفساد؟ وتحريرها هو أكبر الضمانات التي من خلالها نضمن الانتصار في حربنا على الفساد .. للموضوع تتمة إن شاء الله .